المنطق واللغة والفلسفة ـ عبد الرحمن كاظم زيارة

فضاء اوروك ـ المنطق واللغة

المنطق واللغة والفلسفة
عبد الرحمن كاظم زيارة
ان تعدد التسميات التي تطلق على علم المنطق تعكس في الحقيقة تاريخ تطوره في الاغلب ، وليس فروعه . فالمنطق واحد وهو علم التفكير كما لايخفى .. فالمنطق التقليدي والمنطق الحديث والمنطق الرياضياتي والمنطق الضبابي و( منطق الحواء الذي اكتشفناه مؤخرا ً وسنطلقه للنشر قريبا ) .. هي حلقات متطورة تعود بجذرها الى المنطق الارسطي . وربما يصطدمك القول بأن المنطق الرياضياتي هو الوريث الشرعي للمنطق الارسطي دون جدال .
ولأذكر لك جملة من الملاحظات الاساسية ، لتكون عونا لكلينا في الوقوف على ما هو صائب وعلى ما هو خاطئ ،وعلى ما هو به حاجة للتهذيب والتعديل والتصحيح، سواء في فهم البنى المنطقية للقضايا او في كيفية الاستدلال على الحكم فيها ..

أـ ( نحن والتراث العلمي العربي الاسلامي ـ سايكلوجية المعرفة ) :
تأكد لدينا ان للترجمة ومحاولات التوفيق بين الصيغ الكلامية بين اللاتينية والفارسية ، ومن ثم التوفيق بين الفارسية او السريانية والعربية هي السبب في كل مظاهرالالتباس بين الشأن المنطقي والشأن اللغوي . وما كتبه القدماء لم يكن بمنأى عن هذا الالتباس .. فهم مثلا انصاعوا للقول بأن الموضوع لايجب ان يدخل عليه حرف السلب ، فالقول ( كل ما ليس بإنسان ليس بكاتب ) عندهم غير سليم البناء ، وانا اراه سليم البناء . ثم اعتاصت عندهم محاولة التوفيق بين الطرف المعدول والطرف المحصل بإعتبار المعدول موجبا لاسالبا ، إلاّ انه ( موجود ) وان ( اللاموجود) موجود وهلمجرا.. ويقر الفارابي ان العدول ليس في لغة العرب بل في لغة غيرهم .. ولكن هذه الحقيقة لم تحفزهم الى الاتيان بالبديل اللغوي للعدول . وفي الحقيقة لو تأملت الصلة بين الشئ عندما يكون محصلا ، والشئ ذاته عندما يكون غير محصل ( = معدولا) ، تجد ان الشئ المحصل محدود وان غير المحصل ليس بمحدود . ما يعني ان المعدول غير معرّف ، وغير المعرف ليس له معنى . هذا اذا اعتبرنا المعنى تصديق للفظ في الخارج او في الذهن . وحيث ان المنطق يتخذ من التراكيب اللغوية التامة مادة اولية له ، يخضعها الى التحليل ويستكشف احكامها وقيمها الحقيقية في الصدق والكذب ، فلايجب إذن إفتعال تراكيب او الفاظ لغوية ليس لها وجود في اللغة القومية . إن اقحام التراكيب اللغوية الغريبة على لغة قومية ما ، يخرب المادة الاولية لعلم المنطق ، عندما يتخذ من الوحدات اللغوية مادة للتحليل المنطقي . لأن لكل لغة قومية الفاظها ونظامها الصرفي والنحوي التي يعبر من خلالها المتكلمون بها عن افكارهم ، ويتخذونها وسيلة للتفكير ، بل لابد لعلماء اللغة ان يجدوا له مقابلا في لغتهم. وليس المصطلحات العلمية المستحدثة مما يدخل في التخريب وهذه مسألة أخرى . ولو تفحصت جيدا الصياغات الرمزية للمنطق الرياضياتي لوجدتها فصيحة تماما بمكان انها تتجاوز التنوع اللغوي ، وتتسامى فوقه ، وبذات الوقت فأن تلك الصياغات لاتقحم ما هو غريب على اللغات القومية من جهة ، وأنها تستوعب كل اللغات القومية . والسبب في كل هذه المزايا ، أن المنطق الرياضياتي حدد مادته العلمية تحديدا واضحا لا لبس فيه .. وان هذا التحديد هو الذي جعل المنطق الرياضياتي قابل للتطبيق في كل ميادين المعرفة من اللغة والفقه حتى الالكترونيات .
لقد سبقنا في نقد المنطق التقليدي كثيرون ، وأني افترض ان معظم انتقاداتنا ليست جديدة ، ولم تطرق لأول مرة . فلقد نهض علماء كثيرون باجراء التصحيحات على المنطق الارسطي حتى وصلوا الى علم للمنطق محكم .. وهو المنطق الرياضياتي . وأني اعتقد ان المنطق التقليدي الذي يدرس في الحوزات والمدارس الدينية هو ليس تمام المنطق الارسطي . فلقد اضيفت اليه مباحث ذات طابع لغوي صرف من لغات شرقية ليس من بينها اللغة العربية . وكانت واحدة من الاسباب التي عقدت النية بموجبها صوب ملاحظة مواطن الاعتلال المنطقي في المنطق التقليدي ، تتمثل فيما لاحظته من ظاهرة طبع قواعد المنطق بطابع لغة شرقية ما ، قد تكون الفارسية او السريانية. في حين ان الطبيعي هو العكس . ومن ذلك ايضا لاحظت ان بعضا من بثوق هذه الظاهرة ، إن اقحام الغريب اللغوي المحلي في المنطق لابد ان يحلّ حراما ويحرّم حلالا ، وان يشيع التوهم بوجود اللاموجود ، فيصبح المنطق حكرا على اصحاب النوايا المسبقة ، الذي يلازمه ، بل لازمه بالفعل والحقيقة ادعاء احتكار تفسير القران الكريم ، واحتكار امتلاك العلم . ولكن عندما يكون المنطق متحررا من تلك النوايا ، ومتحررا من جعل الغريب اللغوي قاعدة منطقية ، ومتحررا من سطوة التقديس المفتعل ، ومتحررا من الشخصنة والادلجة والعقائد والفلسفة .. اقول عندما يكون المنطق متحررا من كل هذا واضرابه يكون في نصابه الطبيعي حاكما لامحكوما . يكشف كل ما هو غث وسمين ، ويحدد كل ما هو شرعي وغير شرعي ، ويظهر كل ما هو حقيقي وغير حقيقي . ويكون مع كل هذا طريقا واضحا للايمان والعمل الصالح والابداع والابتكار والانجاز والتحضر والتقدم والتحديث والتطور . في العلم لايوجد مقدس سوى الحقيقة ، ولا اعتبار للاشخاص إلا ّ بقدر ما يتوصلون اليه من حقائق ، وما ينجزونه صوابا بما ينفع الناس ويصلح احوالهم ومآلهم .
لذلك فأن ( تقديس) التراث ظاهرة تفصح عن القصور .. لأنها تغلق الطريق عن التطوير والتحديث والابداع والتأصيل ، ولو كان القدماء يقدسون ما يقع في ايديهم من علم لما ابدعوا ولما انتجوا ، بل كانوا يتمتعون بعقل نقدي خلاق ، وقدرة على الابداع والتأصيل .. فلقد توصل العلماء العرب المسلمين الافذاذ الى استنتاجات في علم المنطق هي اليوم تعد قواعد للمنطق الرياضياتي ، إلا ان الخلط بين المعنى اللغوي والتحليل المنطقي ، والنقص في ادوات البحث والخلط في تبني المفاهيم ومشكلات الترجمة حالت دون تسجيل هذا السبق . ومن ذلك في سبيل المثال لا الحصر ، عدّوا القضية التي اسموها بالسالبة الكلية ( ليس كل إنسان كاتب ) ( جزئية سالبة ) وهذا وإن استند الى المعنى فهو في تقديري يمثل حدسا غير مسبوق ، لأن المعنى قادهم الى ( وجود إنسان واحد في الاقل ليس هو بكاتب) ، وبصياغة منطقية ( بعض الانسان ليس بكاتب) وهذه قاعدة في المنطق الرياضياتي .. ولكنهم لم يتنبهوا الى الناحية المنطقية والتي تقرر ان ( نفي القضية ) من شأنه ان يغير كلا من السور والكيف ،كما فاتهم ان الفرق في محل ( ليس) في القضيتين يلزم عنه فرق بنيوي منطقي .. كما فاتهم الفرق بين بنية القضية ( ليس كل إنسان كاتب) وبنية القضية (كل إنسان ليس بكاتب ) لسببين إثنين في الاقل : الاول ؛ إن بحثهم مقصورعلى القضايا الصادقة بدأ . وهذا السبب كان مانعا لعقد المقارنة واستخراج الفرق بين البنيتين كما في المثالين المتقدمين مثلا ، ومقارنات أخرى هي اضحت منذ اكثر من تسعة قرون ضرورية في التحليل المنطقي. والثاني ؛ اعتمادهم في التحليل على المعنى دون النظر في الادوات اللغوية والعلاقات الداخلية للقضية .
وقديما قالوا ( زيد يوجد انسان ) ـ الرازي ـ هذه الـ ( يوجد) تقوم الآن مقام علاقة الانتماء ، ولاتقوم مقام السور الجزئي نحو ( يوجد إنسان عالم) والتي هي في الصيغة المعتادة ( بعض الانسان عالم) .. كما وجدوا ان (( نفي )) القضية الشرطية يحولها الى مفصلة كما نفهمها اليوم .
وبرغم هذه الامثلة التي استندت على المعنى واحواله في التلازم والتنافي والاتصال بحسب حدود هذه المفاهيم عندهم . ولو قدر لهم الاطلاع على اساليب التحليل كما تقدمها علوم الرياضيات اليوم لسبقوا عصرهم باشواط بعيدة . فلايجب ان نتبنى منهج ( لاجديد بعد الاقدمين ) ونكون على شاكلة اولئك الذين ينقبون ويخوضون في آيات القران الكريم ليثبتوا ان كل الكشوف العلمية إنما هي موجودة في القران الكريم دون ان يسجلوا سبقا علميا تتيحه لهم آيات الكريم الكريم .. وهذا خطأ شبيه بخطأ التشبث والتعصب للمنطق التقليدي دون وعي ، برغم ان الحقيقة تقول لاتعارض بين العلم والقران بت . واذا ما توهم مثل هذا التعارض فهو أحد ثلاثة ؛ اما العلم المدعى ليس علما حقا ، او ان تفسير الآية القرانية ليس صحيحا ، أو الاثنين معا . والاقوّم في الاعتقاد ان القران الكريم فيه مفاتيح العلوم ، ومن بين هذه المفاتيح حقائق علمية لم يتنبه اليها العلماء حتى اللحظة .. وفي هذا بحوث ومطارحات لم تضبط بعد للشقة بين مكنة الفهم الفقهي للقران ومكنة التخصص العلمي .
ان المنطق علم ، وكل علم متطور .. يتقدم ويتأصل .. وليس من الصائب تصنيف ( علوم) من تاريخ علم ما ، بما في ذلك المنطق . تاريخ العلم ، أي علم ، يسرد وقائع كشفه العلمي والتصحيحات التي تجرى عليه ..
وثمة سببان وراء ظاهرة ( تقديس) المنطق التقليدي :
الاول: هو النظرة غير الحية للتراث العلمي بصفة عامة ، الذي يقصي التفكير النقدي المبدع.
الثاني : اشتغال البيئات الحوزوية والمدارس الدينية بالمنطق التقليدي ، ادخل في نفوس المنخرطين في هذه البيئات نوعا من التقديس على المنطق التقليدي .لاسيما وان شيوخهم هم مصادرهم في كل ما يتلقون من علم .
واني لاعجب لمن يسبغ التقديس على ارسطو الى الحد الذي يدعي نبوته مثلا وهو الوثني كما لايخفى . لمثل هذا الاعتقاد وغيره يكمن في اعتلالات المنطق التقليدي وفي هذا كلام طويل ليس هذا محله .
ما يقوله العلماء القدماء ليس حجة دائما ، لأننا هنا لانحتكم الى قضية شرعية او فقهية في الدين متواترة حتى يقال لنا قال فلان عن فلان .. وان ما نناقشه علم ، وليس غير ذلك .. ان نسف مقولة علمية يجب ان تكون بالبرهان ،بل ويكفي مثال واحد لنقضها ، واثباتها يجب ان يكون ببرهان على حد الاطلاق والاعمام .

أـ ( اللغة والمنطق ) :
اللغة القومية وعاء للمعرفة ، ووسيلة للتفكير ، واسلوب لتأليف المفاهيم والعبارات والجمل ، والتأليف بينها . واصغر وحدة تأليفية فيها المركب التام ، وهو الجملة ذات المعنى . اما علم المنطق فهو علم التفكير، وأصغر وحدة منطقية فيه هي المركب التام وتسمى القضية . وغاية علم اللغة الإفصاح عن المعاني ، وغاية علم المنطق الحكم على صواب او خطأ القضايا ، واستنتاج قضية من قضية او من قضايا أخرى ..
ان هذه السلسلة من الحقائق اللغوية والمنطقية ليست منفصلة عن بعض ،بل تفصح عن وجود مناسبة ومشابهة بينهما.. وذروة تضافرهما في إيجاد المعنى ومصداقه ..ويظل تضافرهما قائما حتى بعد مغادرة كل منهما هذا المشترك ليتخذ كل منهما طريقه في الاستعمال الانساني . ففي المنطق ظل من اللغة ، وفي اللغة ظل من المنطق .
ولقد وجد علماء المنطق واللغة ان اللغة العربية اوسع منهاجا ، واسماؤها اعم ، وهي غنية في الدقيق من الالفاظ التي وضعت للمعاني . ولها من الادوات ما يجعلها ملتبسة بالمنطق كأن هذا ذاك وذاك هذا . لذلك تجد ان المعنى في اللغة هو الصدق في المنطق ، وغياب المعنى في اللغة دليل الكذب في المنطق لعدم وجود مصداق له .

ان التحليل المنطقي ، بما في ذلك الحكم ، هو شاغل علم المنطق وليس اللغة ،بما في ذلك المعاني . إذ يبدأ المنطقي عمله بعد ان تستوفي القضية شروطها اللغوية بوصفها مركبا لغويا تاما . ثم يغادرها الى التحليل المنطقي . وبرغم هذا الفصل بين الاثنين تبقى للمعنى وظيفته في الحكم على قضية مصاغة لغويا بلغة الكلام وليس بالرموز ـ لاحظ اني اقول القضية وليس بنيتها المنطقية ـ حيث ان القضية صادقة اذا كانت ذات معنى ، والقضية ذات معنى اذا كان لها مصداق في الخارج وهذا ما لادفاع فيه . والحكم بالمعنى يندرج تحته الضروري والبديهي وما الى ذلك . واذا لم يكن للقضية معنى ، أي ليس لها مصداق في الخارج فإنها كاذبة . إلا ّان معنى القضية ، بما هي قضية قابلة للحكم ، ليس تصورا ذهنيا كما هو معنى الالفاظ عامة ، بل هو ناتج عن التحليل المنطقي للقضية . وعلى هذا فإن معنى القضية المصاغة لغويا هوذاته معنى البنية المنطقية الموافقة لها . فكيف يكون ذلك ؟ أوضح لك هذه الحقيقة الخطيرة بمثال ..
( كل إنسان حيوان ) صادقة ، لأن الانسان ينتمي الى الحيوان . فالمعنى صادق على الحقيقة . وإن إقامة او إنشاء البنية المنطقية الموافقة لها يبدأ من تعريف العلاقة بين الموضوع ( س ) والمحمول (ص) فنقول ص مجموعة حيث ص = { س ، ع ، د ، ل ، …} فإن البنية المنطقية (  س  ص ) صائبة دائما .. لأن س تنتمي الى ص المعرفة بسرد عناصرها .
ثم ان تقدير السور من خلال ( المعنى) هو اعتبار ذاتي وليس موضوعي أيضا، وكذلك هو اذا اردت تقدير كيفها .. فلا يجب القفز من الناحية اللغوية الى الناحية المنطقية او العكس . إن ما يبرر قولنا هذا هو ان التحليل المنطقي يتخذ من البنية المنطقية وحدة التحليل وليس القضايا التي هي امثلة ، ومهما كثرت وتنوعت فلايمكن استنتاج القواعد منها. فالقضية عين البنية المنطقية وليس العكس .
فاذا كان قول كتـّاب المنطق التقليدي بأن ( ليس كل انسان كاتب ) سالبة جزئية ، بمعيار المعنى ، او معناها يفيد بجزئيتها وسلبيتها ، فما الذي يمنع من التعبير المنطقي عنها تعبيرا يظهر فيه السور جزئي والكيف سالبا ؟ والتعبير الذي انادي به هو ايضا لاينفك عن اللغة ، فهل تعجز اللغة عن الإفصاح عن معنى ( الجزئية ) ومعنى ( السالبة) لفظا وصورة كتابية لتكون بالصورة ( بعض الانسان ليس بكاتب)؟. ولو سلمنا جدلا ان ( ليس كل انسان كاتب ) وبصورتها هذه جزئية سالبة ، فما هو المصداق الذي يثبت هذا الادعاء ، طالما ان هذه الدعوى جاءت من جهة المعنى ولكل معنى مصداق إن كان صادقا ؟ فهل تقول ان مصداقه في الخارج فلان لايعرف القراءة والكتابة ، فإذا كان هذا مصداقا في الحقيقة والواقع ، فهل يعسر عليك التعبير عن هذا المصداق بقضية مستوفية لشروط انبناءها المنطقي لتقول ( بعض الانسان ليس بكاتب) .؟ واذا طلبت منك ان تأتيني بمصداق منطقي فيكون الجواب نفسه ( بعض الانسان ليس بكاتب ) ..
واجمالا ان المعنى في البنية المنطقية وهي الصيغة العامة المجردة ، توفره فصاحة تلك البنية المنطقية . فيجب وهذه الحال ان يكون شغل المنطقي الشاغل هوكيف ان يجعل الصيغ العامة للقضايا ـ وهي ما اسميها بالبنى المنطقية ـ فصيحة ، وفصاحة البنية المنطقية تقوم على الإفصاح عن كل مكونات البنية المنطقية للقضايا البسيطة ، واعني بها ( اطرافها والعلاقة الداخلية) متضمنة السور عندما يذكر الموضوع في المسورات . فالبنية المنطقية مثلا (  س = ص ) هي تامة المعنى ، لأن معنى البنية المنطقية يكون تاما اذا وفقط اذا ذكرت سورها وبينت طرفيها على وجه يكون الاول موضوعا والثاني محمولا ، واظهرت العلاقة الداخلية للبنية المنطقية .. بعد بناء هذه البنية لك ان تأتي بقضية مكتوبة باللغة القومية ، ايا كانت هذه اللغة بحيث يكون س ، ص متساويان على الحقيقة وبسور كلي وموجبة . نحو ( كل انسان ناطق ) ، واذا اردت كلية سالبة ، فتكرر نفس الصيغة السابقة مع تغيير علاقة التساوي الى عدم التساوي فتقول (  س  ص ) فهي كلية سالبة ومثالها ( كل انسان ليس بناطق ) ، فأهمية ذكر العلاقة صريحة في البنية المنطقية يلزم عنه ان نأتي بموضوع ومحمول متساويين اما اذا قلنا (  س  ص ) حيث  عملية احادية تمثل السلب تبعا لموضعها ، ففي ذلك عدم التحديد لعدم ذكر العلاقة الداخلية للبنية المنطقية .
ب ـ (في ( هو) و( الهو هو ) :
قلنا ان موضوع التحليل المنطقي هو البنية المنطقية وليس القضية المثال كما ذكرت . فما هي البنية المنطقية ؟ إنها اطراف القضية وطريقة التأليف بينهما . هذه الطريقة قد تفصح عنها ( العلاقة ) كما في القضايا البسيطة ( حملية أو غير حملية ) ، وكما تفصح عنها العلاقات في المبرهنات ( وهي نظريات تم اثبات صحتها بالبرهان ) ، او تفصح عنها (رابطة) كما في ( القضايا المركبة من قضيتين بسيطتين اواكثر ) . في المنطق التقليدي يسمون العلاقة ( نسبة ) اما الرابطة فهي الضمير ( هو ) ، وهذا خطأ . فكيف يتفق ان تتواجد ( صلتان ) معا في قضية بسيطة واحدة ، مرة نسبة وأخرى رابطة ؟ إنه أمر غير جائز بت ، ومناف لبنية القضية البسيطة . وينطوي على خلط وخبط بين شأن لغوي ، وشأن منطقي .. قد يكون وجود ( صلتين) مبررا في القضايا المركبة من اكثر من قضيتين بسيطتين ، إلا ان هذا المبرر يزول في البسيطة .
الفارابي لم يستخدم الاسم ( هو ) وأحل محله لفظ ( الوجود) ، فيقول ( زيد موجود إنسان) ، ألا ترى معي ان ليس من المنطق تشويه التركيبات اللغوية ؟ ولو كان الفارابي معاصرا لعصر اكتشاف نظرية المجموعات لأبلى بلاءا حسنا وابدل لفظ الوجود بلفظ الانتماء ، ولآتضحت عنده ما هية العلاقات الداخلية بين اسمي القضية البسيطة .. ومع ذلك فإننا لانحمل الفارابي ما لايحتمله لسبب واحد على الاقل، وهو ان ترجمة علم المنطق من اليونانية فالسريانية فالفارسية او العربية علقت بها الكثير من الشوائب اللغوية من تلك اللغات . ولقد تأملت طويلا مقالة احدهم التي يقول فيها ( النحو منطق عربي والمنطق نحو عقلي) فبالرغم من اعتقاد الغافل بأن القائل قد مدح العربية إلاّ انه قد قدح بها . فلو قال ( النحو منطق عربي أو المنطق نحو عقلي) لكانت الوطأة اخف .
لنعد الى لفظ الوجود ، والذي تقول فيه بأن( العرب نحتوا اسما بدلا من لفظ الوجود وهذا الاسم هو ( هو) ) .. وهذا ليس بنحت ، بل تعويض لفظ بلفظ كلاهما قاصر عن المعنى المطلوب ، وكلاهما غريبان عن المركبات التامة في لغتنا العربية . أما نحت اصطلاح لفظ على معنى عندما لايكون اللفظ موجودا، كطريقة (الارتداد) في النقض ، اوكان موجودا فينقل الى معنى آخر كالصلاة .. كما ان ذاك ليس بنحت بل نقل عن اللغات الاخرى وفي الاغلب الفارسية .. فتأمل قول الانصاري : [وقد وضعت للنسبة في بعض اللغات لفظٌ دالٌ عليه نحو (أست) في اللغة الفارسيَّة فتقول: (زيد نشسته أست) أي زيدٌ جالسٌ.] (دروس في علم المنطق) .
وبالمثل فلقد عجز الشيخ الانصاري عن إثبات صحة استخدام الاسم (هو) بوصفه رابطة ، عندما قال [والنسب الأربع تعني: الرابطة أو العلاقة المتواجدة بين كلِّيين عند مقايستهما ببعض، فهذه العلاقة منحصرةٌ في أربعةٍ لا خامسَ لها ] (دروس في علم المنطق).
فإذا كانت النسبة رابطة ، فما هو ( هو) إذن ؟
ولو تأملت تعريف الجرجاني للنسبة إذ يقول [ النسبة : إيقاع التعلق بين الشيئين ] ( التعريفات)
فهو يتفق مع المعنى الوجودي للنسبة ( هذا موجود في ذاك) ، وهذا هو التعلق ..وقوامه ( العلاقة ) وليس النسبة .. ثم لو تأملت ثانية في تعريفه لمادة [ النسبة الثبوتية : ثبوت شئ لشئ على وجه هو هو ] ( التعريفات) لوجدت فيه تطابق التعلق وثبوت شئ لشئ ، ولكنك تجده يناقض هذا المعنى بقوله ( على وجه هو هو ) لأنه انتقل الى تطابق الشيئين في المعنى والمصداق ، والتطابق على هذا النحو هو الغاء للفرق بين الموضوع والمحمول وكأنه يريد ان يقول ( الانسان هو إنسان) .
ومهما كانت علاقة ثبوت المحمول الى الموضوع ، فهي لاتجعل من الموضوع والمحمول شيئا واحدا ، حتى وإن كانت بينهما علاقة التساوي . وتساويهما في الكم لايجعل ان هذا هو ذاك إلا ّ اذا كان ( هذا ) و(ذاك) شيئ واحد لافرق بينهما ولوضئيلا جدا. فالشئ (هو) الشئ نفسه ،ويسمى هذا بقانون الهوية ، او الهو هو ، او الهو هوية ، بنفس المعنى . فحد اللفظ ( هو ) ليس من العلاقة بشئ ، والشئ إنما ينسب الى شئ آخر ولاينسب الى ذاته ، والنسبة علاقة ، والعلاقة لاتكون إلاّ بين مختلفين . لذلك قيل في القانون ( ب هو ب) ، ولايقال ( ب هو حـ ) .
يأتي اسم الاشارة (هو) جوابا على ( ما هو) ويراد به هوية المسؤول عنه ، ولايبلغ الجواب تمامه إلاّ اذا كان تعريفا بالحد التام او بالرسم التام . ولهذا فإن ( هو) لا وجود لها في الاستعمال المنطقي على النحو الذي يقول به المنطق التقليدي ، لأنها قد تجعل المعرّف وحدّ منه شيئا واحدا ، إن كان النوع او الجنس او الفصل او الخاصة ، وهذا يخالف قانون الهوية ، ويموّه العلاقة الداخلية للبنية المنطقية . وان التعريف بانواعه ( الحد التام ، الحدالناقص ، الرسم التام ، المثال) قد يحيل القضية البسيطة الى قضية مركبة . والقول ان ( كل ب ( هو) حـ ) هو تعريف وليس بقضية ، لأن حـ لها حدود قد تكون فائضة عن حدّ ب ، وقد تكون قاصرة عن حدّه . ومعروفة هي استعمالات الاسم ( هو) في اللغة ، وهو ليس بعلاقة لأنه يشير الى نفس الشئ من حيث هو هو على حد التعريف وليس العلاقة . ولا وجود لاستعمال (هو) في المركبات التامة المؤلفة من المبتدأ والخبر. فلا نقول ( الانسان (هو) حيوان) بل نقول ( الانسان حيوان) والعلاقة بين الانسان والحيوان هي علاقة انتماء الانسان للحيوان ، والحيوان مجموعة شاملة للانسان والطير والزاحف والحشرة والأليف والوحشي والكاسر .. فحق انتماء الفرد الذي هو الانسان للحيوان ، وكذلك في القول ( كل انسان ) أو ( بعض الانسان ) حيوان . والقول ( كل مثلث شكل هندسي ) ليس بتعريف فلا يحق معه القول ( كل مثلث هو الشكل الهندسي) فذلك وهم يجعل كل شكل هندسي مثلثا ، ولكن لو قلنا ( كل مثلث شكل هندسي) نعلم ان المثلث شكلا من الاشكال الهندسية ، فالاشكال الهندسية لها ابعاد قد تكون مغلقة او مفتوحة ، وقد تكون مستوية او مجسمة ، وقد تكون مضلعة او دائرية …ألخ .
ولو صح القول ( كل مثلث هو شكل هندسي ) لصح القول ( كل شكل هندسي هو مثلث ) بالتعريف ، اعني ان المعرف وتعريفه شئ واحد . فالـ (هو ) ، تجعل القول الثاني صحيحا ايضا بهذا الاعتبار ، إلاّ انه ليس حقيقيا ولاعين له في الخارج ولا في التصور . كما انه لايستقيم لا على حد المعنى في اللغة ، ولا على حد القضية في المنطق . وبوجه آخر لو قلت ( المثلث هو شكل هندسي مغلق يتكون من ثلاثة اضلاع ) ،فهذا تعريف مانع جامع ، فيصح القول ( الشكل الهندسي المغلق ذي الثلاثة اضلاع هو المثلث ) . ولايخفى ان النقطتين على الصورة ” : ” تعوض عن الاسم (هو) ، فنقول مثلا ، ( الانسان : حيوان ناطق ) اذا اردنا التعريف دون غيره.
فالاستعمال المعتل لـ ( هو) في المنطق التقليدي إنما جاءنا من لغات اجنبية ، ولما رأوا ان الطبع اللغوي العربي يأباها انتقلوا الى خطأ اكبر فعدوه رابطة وبعضهم عده نسبة ، فالخطأ يؤدي الى خطأ اكبر ، وما بني على باطل فهو باطل . وليس في الامر ما يضير لو جاء (هو) بعد المعرف في القضية المنطقية ، كقولنا ( الانسان هو حي ناطق ) دون ان نعتبر (هو) اداة منطقية لأن المعنى لايختل إن قلنا ( الانسان حي ناطق ) ،(فالانسان هو الموضوع . وحي ناطق هو المحمول ) .{{لاحظ استعمالنا لـ (هو) في الكلام الاخير بين الهلالين ، كيف اوجبه التعريف هنا}}. وردت في (كتاب في المنطق) للفارابي امثلة ، فيقول في الثلاثية ( زيد ينبغي ان يوجد لاعالما) ، وكأني بالفارابي قد تشرب العجمة على وهن . أليس من الفصاحة لو قال ( زيد لاعالما ) ، بمعنى ان زيد ( يوجد) في من يوصفون بأنهم ( لاعالم) . ومع ذلك فإنّا نعد اقحام ( يوجد) بين طرفي القضايا الحملية أهون وطأة من اقحام ( هو) بينهما .

حـ ـ ( العلاقة والرابطة ) :
هب ان اطراف القضية البسيطة مؤلفة من اسمين ،فما يمنعنا من الاستعانة بنظرية المجموعات في الوقوف على العلاقات بينهما . فالموضوع اسم قابل للتكميم ، والمحمول اسم قابل للتكميم ايضا .. وبمعنى ادق ان الاسماء ينظر لها على انها عناصر او مجموعات جزئية او مجموعات شاملة يمكن التعبير عنها بأحد الطريقتين : سرد عناصرها اومجموعاتها الجزئية ، او تعريفها بالخاصة ، او بما يميزها ، فتكون العلاقات بين الموضوع والمحمول كالتالي :
1) علاقة انتماء عنصر الى مجموعة تحتويه ( علاقة الانتماء) [ الانسان ينتمي الى الحيوان] .
2) علاقة المجموعة الجزئية بالمجموعة الشاملة ( العلاقة الجزئية ) [ كل الاعداد الطبيعية مجموعة جزئية من الاعداد المركبة ]
3) علاقة الاحتواء [ كل الحيوان يحتوي الطيور] ، [ بعض الحيوان طير] .
4) علاقة المساواة [ كل انسان ناطق ]
5) علاقة متمم الفرق التناظري [ بعض الابيض طائر]
6) علاقة الانفصال [ الانسان جماد ]
فكل العلاقات الخمسة الاولى المتقدمة تعني ثبوت شئ لشئ لتعلقهما ببعض ، بعلاقة واضحة لا لبس فيها ، اما العلاقة السادسة فهي رفع للتعلق بين الاسمين . ولو تصورت افراد الموضوع وافراد المحمول في القضايا التي لها احد العلاقات الثبوتية ،واجريت عليهما عملية التقاطع لأنتجت مصاديق مشتركة ، وهذا معنى تعلقهما ببعض . ولو اجريت العملية ذاتها بين منفصلين ( الانسان والجماد ) لاتجد عنصرا ولو واحد مشتركا بينهما وكذلك بين النبات والانسان ، وبين الاعداد السالبة والاعداد الموجبة ، فمجموعة تقاطعهما مجموعة خالية .

ومن ذلك ان الصياغة الرمزية للبنية المنطقية البسيطة يجب ان تحتوي على احدى العلاقات المذكورة اعلاه . واعيد التأكيد هنا ان القضية مثال البنية .. فلايصح إذن ان نعبر رمزيا عن القضية الجزئية الموجبة مثلا بالصورة ( بعض ب حـ ) كما هي عادة شرّاح المنطق التقليدي .فهذه الصورة تحتمل احتمالات عدة بعدد العلاقات الممكنة بين الموضوع والمحمول ، لذلك فهي ليست صورة قابلة للحكم .. ان التعبير الكامل عن البنية المنطقية البسيطة يتضمن الطرفين والعلاقة ؛ نحو : ( كل ب = حـ ) او بتعبير اكثر دقة ( لكل ب ، ب = حـ ) اواكثر احكاما (  ب ، ب = حـ ) .. ومثاله ( كل إنسان ناطق ) . وهكذا .. فالقضايا البسيطة عندما تصاغ بصورها تكون احكامها معها ..

ولربما وصلنا الزيغ المضاعف عن سوء الترجمة والخلط بين الشأنين اللغوي والمنطقي عندما يقسمون اللفظ المفرد بأنه : كلمة واسم واداة ،نقلا عن لغات اخرى دون شك ، ولعدم موافقة التقسيم المذكور مع العربية يفسرون الكلمة بأنها الفعل !. فإن كان هذا تقسيما لغويا فهذا خاطئ كما تعلم ، لأننا لانقسم اللفظ في اللغة بل نقسم الكلمة الى : اسم وفعل وحرف. ولايشفع لتقسيمات اللفظ كما تتردد في المنطق التقليدي القول بإن ذلك تقسيما منطقيا للالفاظ . وإن ورد في بعض كتب النحو الحديثة ( تقسيم اللفظ) فالمراد به الكلمة . فليس ثمة تقسيم لفظي إلآّ في علم اللسان وهو علم مادته اللغة بعد ان يقصى منها طابعها القومي ، والمعنى التداولي خاصة . فمثلا وفي مبحث اللفظ ويسمونه ( سنتاكم ) يميزون في العربية اللفظ ( سون ) الذي يوجد في ( تدرسون ، يدرسون ، مدرسون ، قاسيون ، اساسيون ، … الخ) ولكل لغة سلسلة غير منقطعة من الالفاظ تسمى المقاطع . وفي المنطق نأخذ بالكلمات لأن الاسماء والافعال فيها ذات معاني ، ولأن الحروف لها وظيفة معنوية في التراكيب التامة والمقالات والكلام ،لاتستغني عنها . كما ان التقسيم المنطقي لايكون للألفاظ ، بل يكون للقضايا ، لأنها مادة علم المنطق . وحتى تلك التقسيمات للاسماء بالنوع والجنس والفصل والخاصة هي تقسيمات لاشأن للمنطق فيها ، بل هي كانت من شأن الفلسفة ، في مرحلتها الافلاطونية القديمة والحديثة . ولقد اخذت التقسيمات مذاهب اخرى مع التراكم المعرفي الهائل للعلوم وكل اشكال المعرفة المعاصرة ،كما اخذت بعض العلوم تتخذ التصنيف لموضاعتها الفرعية وفق مبدأ للتصنيف ،معيّن . انا لا اقول برفض التقسيم ، بل اقول ان مادة المنطق اضحت واضحة تماما ، ومتميزة عن مادتي اللغة والفلسفة. فالمنطق كالرياضيات كلاهما يقدم منهجية علمية لكل العلوم ، إلا أن لهما مادتيهما العلمية المتميزتين عن بعضهما ، والمتميزيتين عن سائر العلوم والمعارف بما في ذلك الفلسفة واللغة . والطريق السليم لفك الاشتباك الباغي والخلط بين علم اللغة وعلم المنطق ان نضع كلتا قدمينا على خط الشروع بالبحث ونسير بهما على نحو متواز، دون خلط والتباس .

والكلام في المنطق التقليدي ، تجد فيه كلام مناف للطبع وللمنطق في آن ، وغموض في كل الاحوال تقصر عنه العبارة وتعتاص ،ثم يضعون التفسير للتفسير وهكذا فالخطأ مركب ومضاعف ، مع العلم ان المطلوب هو الايضاح ، والمطلوب هو التبسيط ، التبسيط بالمعنى الذي نقول عنه ( جعل الفهم مشتركا) ، فليس من طبع العلوم غموضها .. فإن كان علم ما يتلبسه الغموض فهو ليس بعلم . نحن نعرف ان مللا ونحلا كثيرة ومنها حركات باطنية هدامة نشأت في القرون الوسطى وظفت الاعتلال المنطقي في تعليل وبرهان اطروحاتها ..
على أي حال لنواصل الكلام في الواضح العلمي .. فنقول :
واذا اردنا التجريد والاعمام فنقول ان البنية المنطقية مؤلفة من زوج مرتب هو ( مجموعة غير خالية من الاطراف ، عملية ثنائية ) ، وتفصيل ذلك كما يلي :
ـ اطراف القضية في البسيطة هي اما اسمان ، او اسم وفعل ، او اسم وشبه جملة .
اما اطراف القضية في المركبة فهي قضايا بسيطة .
ـ العملية الثنائية ، هي اما علاقة وتكون في القضايا البسيطة والمبرهنات . او رابطة وتكون في القضايا المركبة .
ولتوضيح مصطلح (( العملية الثنائية )) نقول إنها العملية التي يتطلب عملها وجودها طرفين ، او شيئين . والعمليات الثنائية في المنطق اثنان ، (العلاقات) و(ادوات الربط )، وثمة فرق اساسي بين الاثنين ، يجعل هذا علاقة وليس اداة ربط ، ويجعل هذا اداة ربط وليس بعلاقة .
وهنالك عملية احادية لايتطلب عملها أكثر من طرف وهي عملية النفي .
وهنا انتقل الى نوع من القضايا البسيطة اغفل دراستها المنطق التقليدي وهي (القضايا الثنائية)، التي يميزها اصحاب المنطق التقليدي بانعدام النسبة فيها ، وليس كذلك الثلاثية. وأني أسأل :
ـ كيف تسنى اعتبار الفعل محمولا ؟ وهو ليس باسم ! وليس بجوهر ولا هو بعرض ، فكيف ذلك!
ـ بأي معيار منطقي جاز ان نعد المركب التام المكون من اسم وفعل ، قضية ، وهو لايتضمن النسبة الحكمية . خاصة وان النسبة هي الاعتبار الاساسي للقضية ، ومنها يتقرر الصدق والكذب؟

ولقد لاحظنا ان نصاب البحث في ما تسمى بالقضية الثنائية ضئيلا جدا لدى القدماء والمحدثين، من كتّاب وشرّاح المنطق التقليدي ، وهذا دليل على سذاجة التحليل المنطقي لهذه القضايا تحديدا عندهم . كما لاحظنا خطأ منهجي يرافق مباحث المنطق التقليدي ، وهو اسقاط مكونات القضية التي تسمى ثلاثية ( الموضوع ، المحمول ، النسبة) على ما سواها مثل القضية المسماة بالشرطية وتلك التي تسمى ثنائية ، إلا ان هذا الاسقاط قد كشف خللا كبيرا في التحليل المنطقي للقضايا الحملية ، يوضحه انعدام قابلية اعمام تعريفه على ما سواه من القضايا ، فضاعت النسبة في الشرطية وحل محلها ( اللانسبة ) ، ياسلام ! ، كما ضاعت النسبة من القضية الثنائية تماما . وكانت دفوعاتك تبعث على الاستغراب وانت تريد لـّيْ الحقيقة ليّاً لتخلـُص الى القول بإن ( اللانسبة ) موجودة في الشرطية ، فإني اشفق على طلبتك إن كنت مدرسا. فأنت تعلم ان الاسم غير المحصل يكافئ الاسم السالب . ما تدعيه من وجود غير المحصل ـ المعدول ـ يصح في الاسم غير المحصل وليس في النسبة ، فاستمع الى الفارابي ماذا يقول بهذا الشأن [ وأي أمر حمل عليه اسم غير محصل فينبغي ان يؤخذ ذلك الامر موجودا ] ، ولم يقل ان ( اللانسبة ) يعني وجود النسبة ! علما ان الاسم غير المحصل هو احد اطراف القضية ولايدخل في هذا النسبة او الرابطة . واذا اردتُ ان اجاريك بهذه السفسطة فأقول ( اللانسبة ) موجودة ، وليس النسبة موجودة . واللانسبة عدول عن تحصيل النسبة ، والشئ المعدول عنه هو بحكم المعدوم ! ، وهكذا لاندري ما هو الموجود وما هو ما ليس بموجود .

لايكفي وجود ما تسمى ( النسبة) في الحملية لنقول بوجودها او لاوجودها في الشرطية ،ما هكذا تورد الابل.. ان ذلك يجب ان يكون من شأن التحليل المنطقي ، والذي يجب ان يسبقه تحليل للمنطوقات اللغوية ، اعني القضايا والمقالات ، في أي لغة قومية حية كانت . ان واحدة من مظاهر القصور في التحليل المنطقي الذي يأخذ به المنطق التقليدي أنه اهمل غنى اللغة العربية وكمالها ، بفقر وقصور اللغة الفارسية والسريانية ، فعبر هاتين اللغتين تلقف القدماء علم المنطق مترجما عن اليونانية . بالرغم من ان اللغة العربية غنية بالادوات ، والتي جعلت منها لغة منطقية بامتياز . ولقد تهيأت ترجمة عربية فصيحة وامينة ، بل قل تعريبا دقيقا وموفقا لكتب علم المنطق التي الفها علماء الرياضيات منذ (رسل) فوصلتنا مصفاة من كل عجمة والعياذ بالله ، وخالية من التركيبات اللغوية الغريبة عن الطبع والحقيقة. فلايمكن تعليل اعتلال التراكيب اللغوية ، والتساهل بها بدعوى إن ذلك شأن المنطق ! فأي منطق هذا الذي يشوه السليم ويمتدح السقيم . إني لا أرى المنطق إلا مقوّما للسان ، واللسان الفصيح شرط لسلامة التفكير ، وسلامة التفكير بغية المنطق( بلسان عربي مبين ) صدق الله العظيم .

د ـ (القضايا المركبة وادوات الربط )
إعلم إنـّا عندما عرّفنا البنية المنطقية بإنها زوج مرتب (مؤلف من اطراف وعملية ثنائية ) ، ـ وهو تعريف لنا لم نقرأه في كتاب تقليدي او رياضياتي ، قديم او حديث ـ فإننا لانتنكر له عندما نتوجه الى تحليل البنى المنطقية المركبة من اكثر من قضية بسيطة ( حملية ، ام غير حملية) ، أي إننا لم نقل كما قال اصحاب المنطق التقليدي بوجود النسبة في الحملية ، و( وجودها في الشرطية او لاوجودها ) ، بل قولنا جازم ، عام ، وقابل للتفصيل والتقعيد ، قلنا ( عملية ثنائية) فهي موجودة في كل قضية .. واذا لم تكن موجودة ،فهي ليست بقضية ، لأن عدم وجود العملية الثنائية لايسمح بالحكم في القضية ، وهذا ما لادفاع فيه . ومن غريب قولهم ان النسبة غير موجودة في الشرطية لأنها لاتتألف من موضوع ومحمول .. !! .. وللفارابي لطيفة ، إلا انه لم يأخذ بها لأعادة تقسيم القضايا المركبة ، ولم يتحرر من اختزالها بقضية واحدة وهي الشرطية ، والتي تتبعها بالتقسيم المتصلة والمنفصلة بحسب المنطق التقليدي ، إذ قال [ القضية الشرطية : تكون واحدة اذا كانت حمليتين ، كل واحد منها حملية واحدة ، وربطتا بشريطة واحدة ] ، فما هي ( الشريطة الواحدة التي ” تربط ” بينهما ؟ نحن نفهم ان الشريطة الواحدة هي اداة الربط الشرطية .

إن اطراف القضية المركبة هي قضايا بسيطة ، وان العملية الثنائية في القضايا هي ادوات الربط ، لأن معناها اللغوي يفيد الربط بين القضايا وهذا هو اسمها اللغوي والمنطقي ايضا . واعلم ان مقدمتي القياس ما هي إلا قضية مركبة باداة الربط الاتصالية ، أي قضية متصلة . ان التحليل المنطقي للمنطوقات المركبة في الكلام افرز خمسة ادوات ربط ، وسميت البنى المنطقية لها باسم اداة الربط الموجودة فيها . وهي :
المتصلة (وَ) ، والمنفصلة ( إما .. أو ) ، والمفصلة ( .. أو .. ) ،والشرطية ( اذا كان .. فإن .. ) ، والشرطية المزدوجة ( اذا كان فقط وفقط اذا كان …) وصورها هي : ( ،  ،  ،  ، ).
ومعظم ادوات الربط هذه لكل واحدة منها الفاظ أخر ، إلا ان لها معنى منطقي واحد ، بل ان معانيها اللغوية واحدة ، قد تختلف في السياق والاساليب الكلامية ، ولكن مؤداها واحد في اللغة والمنطق على حد سواء . وان اختزالها بالصور الرمزية المتقدمة الذكر جاءت من هذه الحقيقة .
وكما ان للحملية قواعد للحكم بصدقها او كذبها ، كذلك لكل بنية منطقية مركبة قاعدة ، هي في الحقيقة تعريف لها ، يبين متى تصدق ومتى تكذب وفق جداول تسمى جداول قيم الحقيقة . وإن شئت الدقة فهي بديهيات تقبل دون برهان ، وهي متوفرة في مناهج المدارس الثانوية .
ان اختزال القضايا المركبة الى الشرطية بقسميها ( المتصلة والمنفصلة) من قبل شرّاح المنطق التقليدي ، إنما جاء اعتمادا على الامثلة وليس على صور القضايا .. وهذا طريق لايستفاد منه علم .. ان المنطق التقليدي لم يحدد قرينة القضية الشرطية بصفة عامة ، ولم يحدد قرائن الشرطية المنفصلة والشرطية المتصلة بصفة عامة ، بحيث تمكن المحلل المنطقي من الحكم فيها ..فأوكل ذلك الى معاني الامثلة ، بل امثلة معينة تتكرر بلفظها وبعينها لا زيادة فيها ولا نقصان منذ الفارابي والرازي حتى يومنا هذا ، ما يدل على غياب القاعدة العامة فيها . ان العربي والانكليزي والفرنسي والروسي يعرف قرينة القضية الشرطية ، وقرينتها احدى ادوات الشرط ، فكيف نقنع هؤلاء بأن ( اما العدد زوج او فرد ) بإنها قضية ( شرطية ) ، فإين اداة الشرط هنا؟ .
ألا تجد فرقا بين هذه (الصيغ) التي لها نفس القضيتان البسيطتان س ، ص التي تتركب منهما :
(1) ( اذا كان س فإن ص)، ( 2) ( اما س او ص ) ،( 3) ( س او ص ) ، (4) ( س و ص) (5) ( اذا وفقط اذا س فإن ص ) .
هذه الصور نسميها بنى منطقية مركبة ، لأنها تتركب من القضيتين س ، ص بأحد ادوات الربط .والمنطق بوصفه علما يحلل الصور ليصل الى مطلوبه سواء كان المطلوب التقسيم ام الحكم . ولايتخذ من الامثلة سبيلا الى أي من المطلوبين ، وإلاّ خرج عن كونه علم . إذن اذا كان اعتبار اصحاب المنطق التقليدي في التقسيم والحكم هو المعنى ، فكيف الاستدلال على المعنى من هذه الصور ؟ سيما وان س ، ص مجرد رمزان يشيران الى أية قضيتين بسيطتين . فهذه الصور تحيّد مضمون القضايا البسيطة ، لذلك تجد ان القضيتين البسيطتين س ، ص نفسهما في كل صورة ومع هذه الحال ؛ كيف يكون الاستدلال بالمعنى على اسم القضية ، وعلى الحكم فيها ؟؟ واجيبك ان المعنى موجود في هذه الصور ، ولكل صورة معنى مغاير عن الصورالاخرى برغم اشتراكها بنفس القضيتين س ، ص . وهي صور في غاية الفصاحة والبلاغة . وان ذا القدرة على التجريد يتمتع بالعقلية العلمية ، وان علميته تكمن في قدرته التجريدية ، وقدرته التجريدية تكمن في فصاحته ، وهل المنطق إلاّ علم ؟ واجيبك عن السؤال بما يلي : ان معنى كل صورة انما يستدل عليه ( من معنى اداة الربط) ، ولاختلاف ادوات الربط في الصور ، اختلفت معاني تلك الصور، أي اختلفت مصاديقها . وبكلمات أخرى مكافئة ؛ اختلفت احكامها . فالحكم قرينة المعنى . ولايمكن الحكم على أي من هذه الصور بالصدق اوالكذب دفعة واحدة بما هي صور مجردة ، فهذا لايكون إلا في الامثلة الموافقة لها وليس اذا س ، ص ما زالتا مجردتين عن المضمون .. ولكن الحكم فيها احتمالي نظمته جداول قيم الحقيقة ، وهي تعريفات لهذه الصور ، بالبداهة وسيأتي تفصيلها .
لماذا تكون العملية الثنائية في القضايا المركبة (ادوات ربط) وليست (علاقات) ؟
ان العملية الثنائية في البنى المنطقية تعطي معنى مغاير لمعاني اطراف تلك البنية ، سواء كانت البنية لقضية بسيطة أم لقضية مركبة . وهذا أثر مشترك للعلاقة واداة الربط . ومنه نستدل على الفرق بينهما . حيث ان انتزاع العلاقة يترتب عليه انتزاع وحدة التحليل المنطقي التي هي القضية ، بينما انتزاع اداة الربط لايترتب عليه ذلك ، لأن انتزاع اداة الربط يبقي على وحدة التحليل المنطقي وهما القضيتان البسيطتان ، ولكن بهيئة دون هيئة . ثم ان كل مركب منطقي ينحل الى بسائطه التي هي اصغر وحدة تحليل منطقية ، بينما القضايا البسيطة لاتنحل ابدا ، إلاّ اذا كان انحلالها بوصفها تركيب لغوي ، وهذا ليس من شأن المنطق . ولو تقدمنا في البحث المنطقي لوجدنا ايضا ان العلاقة من شأن الاقتضاء والتكافؤ المنطقيين ، بينما لايستفاد ذلك من البنى المنطقية المركبة بأحد ادوات الربط .
وقبل الشروع بسرد البنى المنطقية المركبة واحكامها لابد من الملاحظة التالية ..
ان ربط القضايا البسيطة ربما يتطلب اجراء تغيير لغوي ـ تعبيري ـ دون ان يغير ذلك من مضمون القضايا شيئا .. لذلك فإن انحلال المركبة يعيد الى القضايا البسيطة تعابيرها بهيئتها الاولى . وهذه الحقيقة لم يعيها شراح المنطق التقليدي ، فمثلا نجد الانصاري يقول [ إذا قلنا: (إنْ احترمَ عليٌ والديه، فأكرمه) أو قلنا: (إنْ تاب عمرّو من ذنبه، فلا تعاتبه) فالجملتان، رغم كونهما شرطيتين، إلا أنَّهما ليسا من الشرطيَّة بشيء حيث لم تتوفر فيهما تلك الموازين التي ذكرناها في بناء الشرطية، وأهمُّها هو أن يكون طرفاها قضيتين حمليتين تحتملان الصدق أو الكذب أُدخل عليهما أدوات الشرط، فانقلبتا إلى مركبين ناقصين، فهما ليسا كذلك لأنَّ الطرف الثاني أعني التالي ليس قضيَّةً أصلاً، بل هو إنشاءٌ لا يحتمل الصدق أو الكذب.فهما ليستا بشرطيتين بل الجملة فيهما إنشائيَّةً ولكنَّها مقيَّدة ومشروطة بشرطٍ وهو احترام الوالدين في المثال الأوّل والتوبة في المثال الثاني.. تأمَّل تعرفْ] انتهى الاقتباس ، واقول تأمّل لتعرف مواضع التخبط والخبط واللغط ! فهو يقر لهما شرطيتهما وينفي عنهما شرطيتهما في جملتين متتابعتين !. فكيف تكون شرطية وليست بشرطية في وقت واحد ؟ وتعليقنا على ما قال هو : ان القضية الشرطية تنحل الى القضيتين التاليتين : الاولى ( علي يحترم والده ) او ( يحترم علي والده) ، والثانية ( المُخاطب يكرم علي ) وليكن المخاطب زيد فتكون( زيد يكرم عليا) . فكلاهما مركبان تامان ، أي كل منهم قضية . وبالاسلوب ذاته تنحل القضية الشرطية الثانية .
صور القضايا المركبة ( = البنى المنطية المركبة)
تمتاز كل صورة من صور القضايا المركبة باداة الربط التي فيها ، وتسمى باسم اداة الربط . ولكل اداة ربط معنى بديهي . لنكتبها مرة أخرى لكي نعرّف قاعدة كل واحدة منها ، وهي قواعد بديهية :
(1) ( اذا كان س فإن ص)، ( 2) ( اما س او ص ) ،( 3) ( س او ص ) ، (4) ( س و ص) (5) ( اذا وفقط اذا س فإن ص ) .
فالصورة (1) بنية القضية الشرطية ، لوجود اداة الشرط وتمتاز اطرافها باسمين تتفرد بهما الشرطية ولايوجدان في القضايا المركبة الاخرى وهما : المقدم والتالي . اما في الصور الاخرى فأن اطراف المركبة تسمى طرف اول وطرف ثان ، او قضية اولى وقضية ثانية ..
والشرطية تكذب في حالة واحدة وهي عندما يصدق المقدم ويكذب التالي وفي الاحوال الاخرى تصدق .
اما الصورة (2) بنية القضية المنفصلة ، لوجود اداة الانفصال . تصدق اذا صدق طرف واحد منها فقط وكذب الاخر . وفي الحالات الاخرى تكذب .
والصورة (3) بنية القضية المفصلة ، لوجود اداة التفصيل ، تصدق اذا صدق طرف واحد منها في الاقل ، وتكذب في حالة واحدة اذا كذب الطرفان .
الصورة( 4) بنية القضية المتصلة ، لوجود اداة الوصل ( المصاحبة) . تصدق اذا صدق الطرفان معا . وتكذب في الاحوال الاخرى .
الصورة (5) بنية القضية الشرطية المزدوجة ( الشرطية الثنائية ) . تصدق اذا صدق طرفاها معا، اواذا كذبا معا . وتكذب اذا اختلف طرفاها في الصدق والكذب .
وثمة نوعا من الابهام بين المفصلة والمنفصلة قد يقع فيه غير المتمرس ، عندما يحلل القضايا المركبة ـ اعني الامثلة ـ فينشغل بمضمون الطرفين ـ اعني القضيتين البسيطتين ـ ويهمل معنى اداة الربط فيما اذا كانت منفصلة او مفصلة . فمثلا قولنا ( زيد اما متزوج او فقيه ) ، فقد يتوهم انها مفصلة وتصدق بصدق الطرفين ايضا ، إذ لايمنع اجتماع كونه متزوجا وكونه فقيها على الحقيقة . ولكن هذا التعليل مرفوض بدلالة اداة الربط المنفصلة ، فالقائل اراد انفصالهما لسبب ما.
والناحية الثانية التي قد تجلب الوهم استعمال اداة الربط التي تفيد التفصيل نحو قولنا ( العدد أربعة زوج او فرد) وبالنظر لعدم جواز اجتماع الصفتين معا فيتوهم ان القضية منفصلة وهي ليست كذلك بدلالة اداة الربط المفصلة . لذلك فإن الاحتراس واجب في اختيار أي الاداتين ملائمة عند القول وتأليف القضايا . واذا صادفتنا قضايا مثل التي اوردناها في المثالين فما علينا إلاّ الحكم فيهما طبقا لتعريف وقاعدة اداة الربط ، وليس الى اجتماع او تنافي الطرفين . فالاولى صادقة اذا صدق زواجه فقط وكذب كونه فقيها ، وصادقة اذا كذب كونه متزوجا وصدق كونه فقيها ،حسب قاعدة المنفصلة ، والثانية صادقة لصدق الطرف الاول .
ان اداة الربط الشرطية واداة الربط المزدوجة تنقلبان الى علاقة الاقتضاء وعلاقة التكافؤ على الترتيب ، اذا كانت القيم المحتملة في الناتج النهائي للجدول كلها صادقة ، أي تحصيل حاصل (= صائبة منطقيا بنفس المعنى ) . وهذا لايكون في القضايا الامثلة بل في البنى المنطقية المركبة. كالبنية المركبة [ ( ب  حـ )  ( حـ  ل) ]  ( ب  ل ) حيث كل من ب ، حـ ، ل قضايا بسيطة . فهذه بنية منطقية مركبة شرطية مقدمها [ ( ب  حـ )  ( حـ  ل) ] وهو بدوره بنية منطقية متصلة لوجود اداة الاتصال  والتي تقرأ ( وَ ) ، طرفها الاول شرطية وطرفها الثاني شرطية . اما تالي القضية الشرطية فهو البنية المنطقية المركبة الشرطية
( ب  ل ) . فكيف نثبت ان البنية المركبة الشرطية اقتضاء منطقي ؟ أي ان اداة الربط الشرطية تنقلب الى علاقة لاقتضاء اذا كانت البنية كلها صائبة منطقيا ..
هنالك اجراءان متضافران لابد منهما في البرهان : ( الاول) علينا ان نثبت ان الناتج الصوري لـ[ ( ب  حـ )  ( حـ  ل) ] هو ( ب  ل ) وذلك باستخدام قواعد جبر القضايا والبديهيات والتعاريف . و( الثاني) فيه طريقان احدهما ان نبرهن ان البنية المنطقية تنتج ص ، أي أن :
[ ( ب  حـ )  ( حـ  ل) ]  ( ب  ل )  صـ ، وصـ تعني قيمة الصدق وهذا يعني انها صائبة منطقيا ، ويتم ذلك ايضا بالبرهان وباستخدام البديهيات والتعاريف وقواعد جبر القضايا. وثانيهما تنظيم جدول قيم الحقيقة فسنجد ان عمود القيم المنسوب للبنية المنطقية ككل كلها ( ص) أي صادقة ، وهذا كاف لاثبات انها صائبة منطقيا فنقول ان البنية المركبة ارتقت الى مصاف النظريات المنطقية المبرهنة عليها او اختصارا ، انها مبرهنة . عندئذ يقلب رمز اداة الربط الشرطية الى رمز علاقة الاقتضاء المنطقي فنكتب  رمز علاقة الاقتضاء بدلا عن رمز الاداة الشرطية :
[ ( ب  حـ )  ( حـ  ل) ]  ( ب  ل ) [ وهذا هو قانون القياس ]
ولاتتوهم ان ب ، حـ ، ل اجزاء القضية البسيطة (موضوع ومحمول ) بل كل منها قضية .
وهكذا تلاحظ ان المنطق الرياضياتي قد اختزل القياس كله بهذا القانون .
ومن حقك ان تسأل ؛ فكيف يكون تطبيق هذا القانون على القياس بمقدمتين حمليتين ؟ ان هذا السؤال لم يتصد له المنطق الرياضياتي ، لا عن عجز وقصور ، بل لسبب آخر وهو ان المنطق الرياضياتي لايأخذ باجزاء البسيطة ، موضوعها ومحمولها ، بل ينظر الى أية قضية بسيطة على انها اصغر وحدة للتحليل المنطقي ، فمبدأه مختلف عن المنطق التقليدي ، وهذا اول تصحيح علمي جرى على المنطق التقليدي وسمح بانطلاقة علمية كبرى في المنطق ، تماثل الانتقالة الحضارية الكبرى التي حققتها الشعوب المتحضرة عندما ابعدت سطوة الكنيسة على شؤون العلم والسياسة ، وحررت البحث العلمي من اللاهوت وتقديس ما يقوله دهاقنة الكنيسة ! ولولا هذا الإبعاد لما تطور العلم ، ولو لا ذاك التصحيح لما تطور المنطق ، فالتحولان التاريخيان متلازمان .
وجوابي على هذا السؤال إن القانون العام للقياس يهتم بالقضايا دون اجزائها كما تقدم ، ويمكن تطبيقه على القياس ذي المقدمات الحملية ، كما هو الحال في القياس الاقتراني مثلا ، اذا اعيد صياغة تلك المقدمات على النحو الموافق للقانون . فنحصل بهذا الاجراء على اقل عدد ممكن من قواعد القياس الاقتراني ، إن لم نحصل على قانون عام مستنتج من قانون القياس المتقدم في أسوأ الاحوال .
ومع ذلك وبشئ من المعرفة الكافية بنظرية المجموعات ، وبشئ من المهارة اللغوية يمكن تطبيق قانون القياس حتى على اعتبار ب ، حـ ، ل هي اطراف لقضاية حملية . وهذه الحقيقة تعد احدى اضافاتنا المستحدثة في علم المنطق والتي اودعناها في كتابنا ( مبادئ المنطق الموحد).

ع ـ ( سلب وايجاب أم نفي واثبات )
وهذه قضية أخرى ليست بالوضوح الذي ينبغي لمباحث المنطق .. ولايمكن تعليل او تفسير الاعتلال المنطقي فيها بالخلط والخبط ..
أول ما أريد التنبيه له هو من اين جاء هذان المصطلحان ( السلب والايجاب) ؟
ولم هذين اللفظين دون سواهما .. ؟
في المنطق التقليدي يقولون ان السلب هو سلب الحمل عن الموضوع . وبنفس الوقت نجد من يلح بوضع اداة السلب امام القضية ( الفارابي مثلا ، كرر هذا التنبيه في (كتاب في المنطق) . ما نلاحظه ان صورة القضية السالبة لاتتوافق مع تعريف السلب نفسه ! ولو اخذنا المصطلح المقابل وهو الايجاب ، فيعرفونه بأنه ثبوت المحمول للموضوع ! لاحظ تعريفهم لم يكن بلفظ ( ايجاب .. المحمول الى الموضوع ، او ( وجوب ؟ ) المحمول للموضوع ) .ان هذه الانتقالة تجعل من المفهومين في إرباك ، والطبيعي إن السالبة تقابلها الموجبة ، والمنفية تقابلها المثبتة ، حتى بمعنى اللفظ وحدوده . ونحن لانأخذ طبعا بتعليل هذه الخبط والخلط بالمعنى ، فهذا عجز مركب ، في اللغة والمنطق في آن واحد .. وحتى بمعيار المعنى ان الثبوت لايعني الايجاب ابدا . ناهيك عن كون الاصطلاحين ( سالب ، موجب) هما اصطلاحان حسابيان ، جبريان ، ولايجب ان يكونا في المنطق . ان المنطق الرياضياتي نفسه ، وبرغم تعامله مع هذين المفهومين ( سالب وموجب ) ، إلا ّ أنه لم يأخذ بهما.
ـ وهنا نسأل : فأذا كان السلب هو سلب الحمل ، فما بال السور ينقلب من كلي الى جزئي وبالعكس ؟
ـ وهل ان سلب الحمل يفعل هذا ام ( سلب القضية ككل يفعل هذا) ؟
ـ واذا جاء تغيير السور والكيف جراء ( سلب القضية) ، فلمَ لمْ يكن هذا السلب مقصورا على الحمل حسب التعريف ؟
ستقول لي : المعنى ، واقول لك : ماذا يقول لك المعنى عن علة انقلاب السور ؟ وبكلمات أخرى : هل المعنى علة ؟ وهل هو علة انقلاب السور ، ام ان المعنى ذاته لحقه التغير لعلة أخرى ؟
فما الذي غيّر المعنى يا ترى ؟
ودفعا لهذا الإشكال نقول : ان الاصل في كيف القضية ليس هو السلب والايجاب ( كقولهم قضية سالبة ، قضية موجبة) بل وطبقا لتعريف ( النسبة ) عندهم ( ثبوت شئ لشئ ) وارتفاعها ( نفي شئ لشئ ) اذا كانت موجبة بحسب اصطلاحهم ، فالاحرى ان يكون تقسيم القضايا باعتبار الكيف الى : منفية ومثبتة . ولو وضعنا اصطلاحاتنا في الاصل واصطلاحاتهم في النواتج لوجدنا ان :
(( نفي الكلية الموجبة ينتج عنه جزئية سالبة )).
((نفي الجزئية الموجبة ينتج عنه كلية سالبة )).
ان النفي ، له أثران : تغيير السور ، والكيف ( الكيف بتعبيرهم الذي هو سلب وايجاب) .
ولكن لو اقصينا الاصطلاحين سلب وايجاب وابدلنا اصطلاحاتهم كلها باصطلاحاتنا لقلنا :
[نفي الكلية المثبتة ينتج عنه منفية جزئية ]
[نفي الجزئية المثبتة ينتج عنه منفية كلية ].
فنتائج النفي لابد ان تترجم الى صورة يفهم منها ـ صوريا ـ انها منفية ، وكذلك المثبتة .
فنعيد تصور أثر عملية النفي وهي عملية احادية كما تقدم ، بصورة مُدركة ، فنقول :
أن أثر النفي أثران ؛ يقلب السور ، ويغير من قيمة الحقيقة . وليس ثمة مسوغ للقول انها تغير الكيف ، لأن هذا القول يمثل وجها من اوجه المصادرة على المطلوب ، وأمر بديهي ان نفي المثبتة ينتج قضية منفية ، ونفي المنفية ينتج قضية مثبتة ، بحسب بديهية ( نفي النفي إثبات) .
لذلك فإن نفي المثبتة الصادقة تتناقض مع الاصل المثبت . والمسورتان المتناقضتان اربعة كما تعلم كل زوج يناقض مقابله يختلف معه بالسور والكيف (أي النفي والثبوت) ، وصدقهما وكذبهما مرتفع ، لابد ان تصدق احداهما وتكذب الاخرى .
إذن النفي والاثبات هو كيف القضية وليس السلب والايجاب ..
هذه المقدمة تغنيني عن الكثير من التعليق على ملاحظاتك. وربما ( وهذا ليس وعدا ) ارسل لك تعليقاتي المفصلة على اصل ملاحظاتك ، وقد بدأت اعلق عليها فعلا فقرة إثر أخرى . وريثما انهي التعليقات دعني أذكر لك بعض الملاحظات العامة …
إنك تأخذ الامر كما لو كان شخصيا ، ويغلب على دفوعاتك الطابع المزاجي والتهجمي وهذا غير مناسب في العلم والحوار العلمي . كما لاحظت انك بدلا من التصدي لنقطة البحث تطنب بالشرح وتعرض المباحث كما وردت في كتب المنطق التقليدي ، والمفروض ان تأتي بحجج مباشرة إذا أردت دحض الانتقادات والملاحظات .
كما لاحظت إنك تكلف نفسك كثيرا في الدفاع عن كل ما هو منسوب الى المنطق التقليدي حتى وإنْ لم يسبق لك الاطلاع عليه .
يحق لك كما يحق لغيرك ان تبدع جديدا في اطار المنطق التقليدي او غيره ، لأن العلم ليس سلعة او مهنة قابلة للاحتكار ، وليس هو بالحق الالهي لهذا او ذاك دون الاخرين . لذلك فإن العقلية النقدية المنفتحة على الحقائق نصيبها البقاء وغيرها الى زوال .. فما الذي يقدمه المرء من انجاز لو كرر ما يقوله السابقون عليه دون اضافة ولو باختلاف حتى لو كان ذلك الاختلاف في طريقة العرض.
ان قدرتك اللغوية في العربية والفرنسية وخبرتك في المنطق التقليدي ،تتيح لك ان تدرس مليا نظرية المجموعات والمنطق الرياضياتي فهما خبرتان لو امتلكتهما لأنتجت الكثير . واقترح عليك الاطلاع على دراسة لي حول منطق الجبر البولي المنشورة في موقع الحوار المتمدن ،لتلاحظ كيف استطاع بوول ان يؤسس جبرا مميزا من ملاحظته للشبه بين جبر المجموعات وجبر المنطق . وقد قرأت يوما ان احد حكماء اليونان واظنه سقراط أو ارسطو كتب على باب مدرسته : لايدخلها من لايعرف الرياضيات .ومدرسته كانت فلسفية . فإني لا اتخيل ان يكون المرء ضليعا في المنطق دون ان يعرف الرياضيات . إني لا اقترح عليك دراسة الرياضيات فهذا مناله بعيد ، ولكن كما قلت ادرس نظرية المجموعات والمنطق الرياضياتي .
ولقد لفت نظري وصفك للمنطق الرياضياتي بأنه علم آلي عملي نفعي .. وأنا لا أرى ما تقوله إلا مدحا لهذا المنطق .. فإن هذا المنطق وراء كل الانجازات الحضارية المعاصرة ، وهل ثمة خير في (علم ) ما لم يكن نافعا ، وعمليا ، ومنضبطا ، وليس في قواعده استثناءات ، ولاتعقيرات ، ولاتعقيدات ، ولا قفزات من اللغوي الى المنطقي ومن المنطقي الى اللغوي . ولايكون علما ما لم ينتفع به وهو صدقة جارية بدلالة الحديث النبوي الشريف .
واحدة من اسباب انعتاق مسيرة العلم من آسار التخلف والشخصنة في اوربا إنهاء سطوة الكنيسة على الحياة العامة ، فلقد كانت الكنيسة رقيبا مقيدا للعقول ، ولاتعترف بشرعية كل شئ لم يخرج من تحت عباءة القس المقدس والبابا المقدس ، فالارض بالنسبة لهم لاتدور ما لم يقول قداسة البابا بذلك والذي من بين صلاحياته الممنوحة له من الاله توزيع تذاكر الدخول الى الجنة. فاضحى الناس بدلا من ان يطلبوا رضا الواحد الاحد الذي خلق وقدر كل شئ ، راحوا يكدون ويكدحون لكسب رضا قداسة البابا .. فركبوا البغل من جهة الذيل ، ووضعوا الفرس خلف العربة. والامر مثل هذا عندنا في التعامل مع المنطق والعلوم الاخرى ذات الصلة ، فتجد طلبة العلوم الدينية لايأبهون بكتاب في المنطق لم يؤلفه شيخا او مرجعا يكن له التقديس يحمل القاب ” مقدسة ” لدى تابعيه او مقلديه . وإنْ وجهت لكتب المنطق التي نهضوا بكتابتها انتقادات ،فهذا كفر ومروق على الدين وجرأة على صاحب الفضيلة والسماحة ، وقلة إيمان ، وقلة أدب . ولكن في هذه اللجة والغوغاء تستطيع ان تجد علماء يستحقون هذه الصفة ، فعلا .. تستطيع محاورتهم وتخرج منهم بعلم ، ولا يتوانون عن الاعتراف بخطأ اعتقاد لم ينتبهوا اليه فيما سبق ، ولايبخلون عليك في الاشارة الى مواطن الضعف او الخطأ فيما تعتقد طالبين وجه الله تعالى وطلبة الحق أنـّا وجدوه .. ولايضعون انفسهم محل نقطة البحث ، بل يجردون منها كل ما هو شخصي ، ولاتجد فيهم عصبية وتعصب لأن التعصب غياب العقل وكذلك هو التقليد .