اللغة القومية وعلم المنطق ـ عبد الرحمن كاظم زيارة

عبد الرحمن كاظم زيارة اللغة القومية وعاء للمعرفة ، ووسيلة للتفكير ، واسلوب لتأليف المفاهيم والعبارات والجمل ، والتأليف بينها . واصغر وحدة تأليفية فيها المركب التام ، وهو الجملة ذات المعنى . اما علم المنطق فهو علم التفكير، وأصغر وحدة منطقية فيه هي المركب التام وتسمى القضية . وغاية علم اللغة الإفصاح عن المعاني ، وغاية علم المنطق الحكم على صواب او خطأ القضايا ، واستنتاج قضية من قضية او من قضايا أخرى ..
ان هذه السلسلة من الحقائق اللغوية والمنطقية ليست منفصلة عن بعض ،بل تفصح عن وجود مناسبة ومشابهة بينهما.. وذروة تضافرهما في إيجاد المعنى ومصداقه ..ويظل تضافرهما قائما حتى بعد مغادرة كل منهما هذا المشترك ليتخذ كل منهما طريقه في الاستعمال الانساني . ففي المنطق ظل من اللغة ، وفي اللغة ظل من المنطق .
ولقد وجد علماء المنطق واللغة ان اللغة العربية اوسع منهاجا ، واسماؤها اعم ، وهي غنية في الدقيق من الالفاظ التي وضعت للمعاني . ولها من الادوات ما يجعلها ملتبسة بالمنطق كأن هذا ذاك وذاك هذا . لذلك تجد ان المعنى في اللغة هو الصدق في المنطق ، وغياب المعنى في اللغة دليل الكذب في المنطق لعدم وجود مصداق له .
ولما كانت القضية مركب تام ، فمن المركبات التامة ما يحكم فيها صدقا اوكذبا ، ومنها ما لايمكن الحكم فيه .. ويكون المركب التام قضية اذا لم يكن أمرا ، او طلبا ، او استفهاما . وعند هذا الشرط يكتمل الفرق بين القضية في المنطق ، والمركب التام في اللغة . فالقضية إذن هي مركب تام يمكن ان يحكم فيه صدقا او كذبا . ومدار الحكم المنطقي يتمثل في صحة نسبة لفظ الى لفظ آخر بأحد العلاقات ، وفي صحة ربط مركبات تامة مع بعضها، ونصطلح عليها في المنطق القضايا المركبة .
ان المركبات التامة التي ترقى الى القضايا شكلان بإعتبار الفاظها ، وهي اجزاؤها :
الاول : الجملة المؤلفة من اسم وفعل ، او من اسم وشبه جملة ، وهي جمل خبرية بالاجمال. يتحقق صدقها من مصداقها في الحقيقة او التصور . وهذا النوع من القضايا ليس غنيا عن العلاقة المنطقية بين جزئيها ..كما يتوهم شرّاح المنطق التقليدي .
الثاني : الجملة المؤلفة من اسمين ، وهما المبتدأ والخبر ، وهو مركب تام ليس بغني عن العلاقة المنطقية .إذ لابد من نسبة الاسم الاول الى الاسم الثاني ، او ارتفاع النسبة .
ويصطلح على الاسم الاول منها موضوعا وعلى الثاني محمولا . ويعبر عن النسبة بينهما باحد العلاقات ؛ وهي اما انتماء الموضوع الى المحمول ، او يكون الموضوع جزءا من المحمول ، او يكون المحمول محتوى في الموضوع ، او يتساويان، او يكون بينهما مشترك هو جزء من الموضوع وجزء من المحمول . وكل هذه العلاقات تدل على ثبوت المحمول للموضوع . واذا لم يحصل هذا الثبوت لا عن نفي ، بل عن عدم انتساب الموضوع للمحمول فنقول انهما منفصلان.
ان القضية البسيطة هي اصغر وحدة منطقية تخضع الى التحليل المنطقي ، وغايته الحكم. واصطلحنا عليها هكذا لأنها لاتنحل الى قضيتين .
وتنقسم القضية البسيطة باعتبار ثبوت المحمول الى الموضوع او عدمه الى :
ـ حملية ، حيث الموضوع يحمل المحمول ، وهذا الحمل هو الثبوت .
ـ غير حملية ، حيث الموضوع لايحمل المحمول ، وهذا رفع للثبوت .
والحكم يتحرى في القضية عن قيمتها صدقا او كذبا ، كتحري المعنى في المركب . فالمركب ذي المعنى في اللغة هو بمنزلة القضية الصادقة في المنطق . والمركب غير ذي المعنى في اللغة هو بمنزلة القضية الكاذبة في المنطق .
ومن القضايا البسيطة ما يقرن الكم بموضوعها وتسمى المسورة ، وكم القضية هو عدد افراد الموضوع .ومن القضايا البسيطة غنية عن تكميم موضوعها ، ولا اضطرار لها اليه .
وسور القضية سوران ؛ كلي وجزئي :
ـ فالسور الكلي هو كل افراد الموضوع على الحقيقة ، وقد نسبوا الى المحمول ، وكل فرد منه قد حمل المحمول نفسه . والفاظه ؛ كل ، جميع ، أي واحد . هذا في المحصورات عددا . و كل وقت ،كل حين ، كل ساعة ، كل عصر، أي حين ، أنّا كان اذا فهم منه الزمان فقط ..وهذا لحصر الزمان . كل مكان ، كل ارض ، كل بلد ، إنّا كان اذا فهم منه المكان . وهذا لحصر المكان .
ـ اما السور الجزئي فهو سور الوجود ، والشئ موجود اذا صدق وجود فرد واحد منه فقط . والفاظه ؛ بعض ، واحد ، يوجد .. للمحصورات عددا . بعض الوقت ، وقت ما ، ساعة ، يوم ، سنة .. هذا لحصر الزمان . وبعض الامكنة ، مكان ما ، بلد ما ، بعض الارض .. وهذا لحصر المكان .
وتنقسم القضية البسيطة باعتبار الكيف الى مثبتة ومنفية . فالمثبتة ما ثبت محمولها الى موضوعها ، والمنفية ما سلب حملها عن موضوعها . وكل ادوات النفي اذا دخلت على القضية البسيطة غير المسورة تسلب محمولها عن موضوعها ، فتكون سالبة الحمل .
وكل ادوات النفي اذا دخلت على القضية البسيطة المسورة أحدث ثلاثة تغيرات :
ـ قلبت سورها ، إن كان كليا ينقلب جزئيا ، وإن كان جزئيا ينقلب كليا .
ـ سلبت حملها عن موضوعها ان كان ثابتا له قبل النفي ، وتثبت حملها لموضوعها ان كان مسلوبا عنه قبل النفي .
ـ تغير العلاقة بين الموضوع والمحمول ، وهذا بأحوال مختلفة ، ومفصلة .
ان نفي القضية البسيطة عامة ، من شأنه ان يحول العلاقة بين الموضوع والمحمول من الايجاب الى السلب ،او من السلب الى الايجاب . فتكون في الاولى سالبة بعد ان كانت موجبة قبل نفيها، فتكون مسلوبة المحمول .وتكون في الثانية موجبة بعد ان كانت سالبة قبل نفيها، فتكون موجبة المحمول .
ان الاصل في كيف القضية البسيطة هو الثبوت والنفي ، اما الايجاب والسلب فهما فرع على الثبوت والنفي ، وإثران من إثار النفي باختلاف الاحوال . فلا نقول سالبة وموجبة ، بل مثبتة ومنفية .
ففي المسورات وعلى حد اللفظ واغفال العلاقة الداخلية تجوزا ، نجد اثر النفي واضحا وكما يلي :
ليس كل ب حـ هي بعض ب ليس حـ
ليس بعض ب حـ هي كل ب ليس حـ .
ليس كل ب ليس حـ هي بعض ب حـ
ليس بعض ب ليس حـ هي كل ب حـ
فكل زوج من المسورات الاربعة المنفية والمثبتة متناقضتان . والقضيتان المتناقضتان مختلفتان في ثلاث : السور والكيف والقيمة .
ان موضوع التحليل المنطقي صورة القضية على اختلاف القضايا وتقسيماتها ، وصورة القضية هي البنية المنطقية التي يجب ان تفصح عن شيئين :
ـ الاول : اطرافها ، واطراف القضايا البسيطة هما الموضوع والمحمول .
ـ الثاني : العلاقة الداخلية .
ان الحكم في القضية وفقا للتعريف يمر بمرحتلين متلازمتين هما على الترتيب؛ الكشف عن العلاقة الداخلية ، والقرار بصدقها او كذبها . لذا من الواجب ان تكون البنية المنطقية فصيحة كفصاحة المركب التام . ان البنية المنطقية ( كل ب حـ ) ليست فصيحة ، إذ انها اغفلت العلاقة الداخلية ، لذلك فهي ليست محكمة ..ولكي تكون فصحية ، أي محكمة ،لابد من ذكر العلاقة الداخلية .. كقولنا ( كل ب حـ ، حيث كل ب ينتمي الى حـ ) فالعبارة ( حيث ب ينتمي الى حـ بذاتها هي الحكم ) ،وكقولنا ( كل ب حـ ، حيث كل ب مجموعة جزئية من حـ ) ، وكقولنا ( بعض ب حـ ، حيث بعض ب لاينتمي الى حـ ـ منفصلان ـ ) وهكذا .. وان نفي الاولى يغيرها الى ( بعض ب ليس حـ ، حيث بعض ب لاينتمي الى حـ ) فإن صدقت المثبتة كذبت المنفية ، وينعكس .
ومهما كانت علاقة ثبوت المحمول الى الموضوع من العلاقات الداخلية ، لاتجعل منهما شيئا واحدا ، حتى وإن كانت بينهما علاقة التساوي ، وتساويهما في الكم لايجعل ان هذا هو ذاك . فالشئ هو الشئ نفسه ،ويسمى هذا بقانون الهوية ، او الهو هو ، او الهو هوية ، بنفس المعنى . فحد اللفظ ( هو ) ليس من العلاقة بشئ ، والشئ إنما ينسب الى شئ آخر ولاينسب الى ذاته . لذلك قيل في القانون ( ب هو ب) ، ولايقال ( ب هو حـ ) . يأتي اسم الاشارة هو جوابا على ( ما هو) ويراد به هوية المؤول عنه ، ولايبلغ الجواب تمامه إلاّ اذا كان تعريفا بالحد التام او بالرسم التام . ولهذا فإن ( هو) لا وجود لها في الاستعمال المنطقي ، لأنها قد تجعل المعرّف وحدّ منه شيئا واحدا ، إن كان النوع او الجنس او الخاصة ، وهذا يخالف قانون الهوية . كما يموه العلاقة الداخلية للبنية المنطقية . وان التعريف بانواعه ( الحد التام ، الحدالناقص ، الرسم التام ، المثال) قد يحيل القضية البسيطة الى قضية مركبة . والقول ان ( كل ب ( هو) حـ ) هو تعريف وليس بقضية ، لأن حـ لها حدود قد تكون فائضة عن حدّ ب ، وقد تكون قاصرة عن حدّه . ومعروفة هي استعمالات الاسم ( هو) في اللغة ، وهو ليس بعلاقة لأنه يشير الى نفس الشئ من حيث هو هو على حد التعريف وليس العلاقة . ولا وجود لاستعمال (هو) في المركبات التامة المؤلفة من المبتدأ والخبر. فلا نقول ( الانسان (هو) حيوان) بل نقول ( الانسان حيوان) والعلاقة بين الانسان والحيوان هي علاقة انتماء الانسان للحيوان ، والحيوان مجموعة شاملة للانسان والطير والزاحف والحشرة والأليف والوحشي والكاسر .. فحق انتماء الفرد الذي هو الانسان للحيوان ، وكذلك في القول ( كل انسان ) أو ( بعض الانسان ) حيوان . والقول ( كل مثلث شكل هندسي ) ليس بتعريف فلا يحق معه القول ( كل مثلث هو الشكل الهندسي) فذلك وهم يجعل كل شكل هندسي مثلثا ، ولكن لو قلنا ( كل مثلث شكل هندسي) نعلم ان المثلث شكلا من الاشكال الهندسية.
ولو صح القول ( كل مثلث هو شكل هندسي ) لصح القول ( كل شكل هندسي هو مثلث ) بالتعريف ، اعني ان المعرف وتعريفه شئ واحد . فالهو ، تجعل القول الثاني صحيحا ايضا بهذا الاعتبار ، إلاّ انه ليس حقيقيا ولاعين له في الخارج ولا في التصور . كما انه لايستقيم لا على حد المعنى في اللغة ، ولا على حد القضية في المنطق .
والاستعمال المعتل لـ ( هو) في المنطق إنما جاءنا من لغات اجنبية ، ولما رأوا ان الطبع اللغوي العربي يأباها انتقلوا الى خطأ اكبر فعدوه رابطة وبعضهم عده نسبة . وليس في الامر ما يضير لو جاء هو بعد المعرف في القضية المنطقية ، كقولنا ( الانسان هو حي ناطق ) دون ان نعتبر (هو) اداة منطقية تعبر لأن المعنى لايختل إن قلنا ( الانسان حي ناطق ) ،(فالانسان هو الموضوع . وحي ناطق هو المحمول ) .. فيلاحظ استعمالنا لـ ( هو) في الكلام الاخير بين الهلالين ، كيف اوجبه التعريف هنا.
وتنقسم القضية البسيطة الى محصلة وغير محصلة ، فالقضية غير المحصلة هي التي يكون حرف السلب جزءا من محمولها ، او جزءا من موضوعها . ومعنى اللفظ غير المحصل ، اقصاء معناه دون الإتيان ببدل عنه . نحو لاإنسان ، لاحيوان ، غير موجب ، ما ليس طير ..ففي كل هذه الالفاظ إقصاء معاني الانسان والحيوان والموجب والطير .. وبمعنى لغوي آخر ومكافئ للاول ، ان غير المحصل هو المعدول عن تحصيله . لو كان الاسم ( ب) ينتمي الى مجموعة أخرى لتكن الاسم (حـ) فالقول ( ب لاجـ ) هو عدول عن المحمول حـ الذي يمكن ان يحتوي ب . ولكن ( لاحـ ) لاتعني اللفظ المناقض لـ (حـ ) ، ولاتفصح عن الشئ البديل الذي ينتمي اليه ب على وجه يمكن معه ان نضع اسما بدلا عن ( لا حـ ) . فالمحمول المعدول رفع المحمول المحصل عن الموضوع فقط .