المدينة والحلم المفقود! (حول كتاب ارم ذات العماد ل فاضل الربيعي) ـ أسامة أنور عكاشة

أسامة انور عكاشة

أسامة انور عكاشة

في الميثولوجيا العربية القديمة أسطورة شيقة تتحدث عن أعرابي اسمه ابن قلابة خرج بإبله ذات يوم قاصدا مصلحة يبتغيها, ولكنه ـ في لحظة غلبته الغفوة ـ وأفاق ليجد إبله قد شردت هاربة في مسارب الصحراء الواسعة.. وكان عليه أن يسعي باحثا في كل اتجاه حتي يجدها ويعيدها إلي مضاربه.. وبدأ رحلة بحث أشبه بالدوران في متاهة لا أول لها ولا آخر.. وفجأة وجد في نهاية درب غامض ما أذهله.. مدينة بأكملها تلمع ببريق آخاذ في عز ضوء النهار.

ابنية كلها بالأحجار الكريمة والذهب الخالص.. وخالية تماما من البشر فلا يقطنها إنسان.. وتجول ابن قلابة.. ذلك الأعرابي التائه.. مبهورا مأخوذا في قصورها يتحسس جدرانها وأعمدتها المبنية باللألئ والمرجان والفيروز.. ويعجب لرائحة المسك التي تتضوع بها الأرجاء.. فيبحث عن مصدرها فلا يجد غير أحجار صغيرة في حجم البندق ترصف الأرض.. ويتأكد أنها مصدر رائحة المسك.. ويتناول واحدة منها ليقربها من أنفه فلا يجد لها رائحة ثم يكتشف بعد عناء أنها لابد أن تكسر كما تكسر البندقة.. وحين يفعل تنطلق رائحة المسك منها دافقة فياضة!

المفكر العربي فاضل الربيعي

المفكر العربي فاضل الربيعي

ويعود الأعرابي إلي مضارب قومه ليحكي لهم عن مدينة الجنة كما سماها.. وإذ خرج السر من صاحبنا فلم يعد سرا وانتشر الخبر وذاعت قصة ابن قلابة البدوي الذي عثر علي كنز المدينة.. وحقق وعد الحلم الضائع! حلم البدوي.. بجنة المدينة حتي تصل الأخبار إلي بلاط الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان.. الذي يدهشه الأمر ويغضبه في آن[ إذ كيف يمتلك واحد من الرعية أو مجرد مواطن عادي سرا لا يعرفه السلطان صاحب كل الأسرار ومحتكر كل المعارف؟].. ويرسل الخليفة في طلب ابن قلابة ويسمع منه القصة ولا يكاد ينكرها ويشكك فيها حتي يكسر له الأعرابي بندقة الياقوت ويطلق رائحة المسك!..

لكن السلطان يزداد حنقا ودهشة في الوقت نفسه فيرسل في طلب كعب الأحبار.. ذلك الحكيم.. كاهن اليهود قبل الإسلام.. وكبير حكماء عصره بعد إسلامه.. وحكي لي حكاية البدوي الذي أضاع إبله ولكنه عثر بدلا منها علي المدينة الحلم!.. وبعد أن استوعب كعب تفاصيل القصة, أعلن أن هذه المدينة لابد أن تكون إرم.. نعم هي نفسها إرم ذات العماد.. التي لم يخلق مثلها في البلاد! صادفتني هذه القصة المؤسطرة في كتاب واحد من أهم باحثي التراث هو الأستاذ فاضل الربيعي.. الكتاب اسمه ذو الثلاثة مقاطع: إرم ذات العماد ـ من مكة إلي أورشليم: البحث عن الجنة وهو كتاب ـ بل سفر ـ يحوي بحثا ممتعا حقا عن جذور المرويات المرتبطة بالميثولوجي في شبه الجزيرة العربية.. وقد وضع الأستاذ الربيعي في هذا البحث القيم ثقله الفكري المبدع وراء نظرة رآها في الحلم المتكرر المتضمن في معظم الثقافات بأساطيرها المختلفة وهو حلم العثور علي الفردوس المفقود أو المدينة ـ الحلم واسمحوا لي أن أنقل هنا نصا بعينه اقتطعته من الفصل الأول من الكتاب.. ثم أعقب عليه متداخلا أو مشتبكا..

يقول الباحث البارع : وفي عالمنا المعاصر كما في الماضي, غالبا ما تلجأ السلطة إلي مطاردة الأفراد, وفي الوقت نفسه تقوم بنشر شعاراتهم وأفكارهم علي أنها أفكارها وشعاراتها.. وفي هذا السياق يحدث ما نسميه بالتواطؤ المفضوح بين الخليفةـ أو السلطان أو الحاكم ـ والجماعة علي تجريد البدوي من السر ونقله إلي يد الخليفة.. ذلكم هو التواطؤ الذي تصفه الأسطورة بأدق الكلمات: مثل هذه المدينة علي مثل هذه الصفة, لا يستطيع دخولها هذا الرجل.. ماذا تعني هذه العبارة المخادعة؟.. ببساطة تعني أن صفة البداوة يمكن أن تبيح للحاكم حق حرمان أي فرد من امتلاك سر المدينة.. ولكن لماذا تقوم الجماعة بالتواطؤ مع الخليفة والكاهن بتجريد الفرد من حق امتلاك السر وإرغامه علي التنازل عنه؟.. لأن البداوة مقصاة ـ في عرف السلطة المتمدنة للتو ـ عن حق المشاركة.

في الفتوحات الإسلامية داخل الأمصار والمدن الجديدة, نظرـ باستمرار ـ إلي البداوة كرديف للاعضوية, للصلف والقسوة والجهل, بما يبيح الحق للحاكم لا في حجب المدينة عن أنظار البدوي وإنما أيضا حق منعه من الاقتراب منها, سينظر إلي البدوي علي أنه النقيض المناوئ الذي يصدر عنه خطر داهم, جلب الفوضي والخراب, فهو غاز لا رحمة في قلبه!: ويمكن لبحث سوسيولوجي تاريخي في هذا الإطار أن يكشف عن هذا المعني بدقة أكبر..

باختصار سيري قاطنو المدن إلي البدوي القادم من العالم اللاعضوي علي أنه غاصب, مطرود من جنة المدينة حتي يتوب ويتحرر من بداوته ويخضع لسلطان المدينة وثقافتها, وربما لهذا السبب لاتزال مجتمعاتنا العربية ومن منظور سوسيولوجي تصف كل سلوك غير محبب وغير لائق علي بأنه سلوك بدوي, وإن لم يكن صادرا عن شخص بدوي بالفعل.. قد تكون هذه ـ نسبيا ـ نظرة واحدة من نظرات الإسلام إلي عالم البداوة( الأعراب أشد كفرا ـ قرآن كريم). وإذ ينتهي هنا النص المنقول عن الأستاذ الربيعي الذي أضاء لنا الطريق الذي نتتبع من خلاله المحاولة البديعة التي بذلها الباحث المحلل الصبور في الإسقاط من الماضي المؤسطر علي الواقع الحالي..

فلنا أن نتدخل بوجهة نظر تستهدف نقل نموذج المدينة ـ الحلم من منطقة التحليل السوسيولوجي أو نقد الميثولوجي إلي منطقة العلاقة بين المرويات التراثية الأقرب إلي الفانتازيا الميثولوجية وبين مشاكل الواقع السياسي.. فالإسقاط الذكي الذي استخدمه الأستاذ الربيعي في الربط بين أساطير المدن المفقودة وبين التحالف المؤسسي ـ أو ما سماه بالتواطؤ بين السلطان والكاهن والجماعة ضد الفرد لسلبه حقه في المشاركة.. هذا الإسقاط يقود إلي إسقاط آخر مواز.. ترمز فيه بـ المدينة. الحلم.. أو بالجنة المفقودة BaradiseLost إلي الحرية.. والحرية السياسية بالتحديد: حرية الحصول علي الحقوق المتساوية.. وحريات الاعتقاد والتفكير والعمل وممارسة الحكم تداوله. لك هي المدينة التي نحلم جميعا بالعثور عليها والتقاط جواهرها الكريمة التي ينبعث منها المسك الذي يتيح لكل فرد أن يتنفس بعمق مستمتعا بحرية الجنة الإنسانية. ان نموذج ابن قلابة, الذي شردت إبله وفي رحلة للبحث عنها يتحقق حلم المدينة فيدخلها, ليس إلا نموذجا خياليا, بمعني أنه نتاج لحلم يقظة يفترض العثور علي الفردوس المفقود ـ ولكل مواطن فردوسه المفقود الذي يتجمع ليصبح حلما واحدا لجموع المواطنين ـ والعبارة المشهورة التي تقول إن الأساطير هي حلم يقظة الشعوب لا تعني إلا ما نقوله الآن وبهذا تصبح المدن الضائعة: إرم.. وأوفير.. وتدمر.. وغيرها معادلا أسطوريا.. لمدن ضائعة علي مستوي الواقع التاريخي( فلسطين ـ الأندلس ـ الإسكندرونة؟).. ومعادلا سياسيا لأحلام مفقودة في الحرية والرخاء والديمقراطية لدي الشعوب المنفية.. التي تقف أمام أسوار المدن المحرمة بسبب ضعفها وتخلفها( أي بداوتها) وإعطائها المبرر للثالوث المتواطئ: الخليفة, الكاهن والجماعة. كلمة أخيرة عن الكتاب الممتع الذي يشد قارئه إلي مساحة سحرية من إثارة الخيار وإعمال الفكر.. وإلي كاتبه الأستاذ فاضل الربيعي الذي أحييه.. وأشكره: وأدعو كل مثقف يريد أن يتعرف علي العالم الرحب الذي يفتحه أمامنا الكتاب إلي أن يقرأ.. ويفكر.. ويستمتع..!