حسه،حتى ذاع أسمه،وانتشر في المجامع العلمية، واللغوية، والمحافل الأدبية والفكرية لا لغوياُ فحسب،بل مؤرخاً ثبتاً،ومحققاً لا يرقى الشَّك إليه،فمنذ عشرينيات القرن الماضي بدأ حياته العلمية: باحثاً، ومحققاً،ومعقباً،ومنقباً،ثم أخذ ينتج معنياً بمواضيع عديدة: أخصها اللّغة، وأعمها التاريخ، تأليفاً في حين،وتحقيقاً ونشراً في حين آخر،وزائراً يُسامر العراقيين في بيوتهم عن طريق وسائل الإعلام ببرامج وأحاديث ،ولعل هذا أهم مايميز شخصيته العلمية إذْ لم يكن ضنيناً بعلمه،بخيلاً بمعرفته، فأفاد بعلمه الكثير،ولم يحصر نفسه (أستاذاً أكاديمياً ) في قاعات الدرس – بالرغم من أهميتها – أو يقف عند حدود النّشر والمتابعة بل آمن أنَّ الثـقافة لكل النّاس، فراح يتحدث إليهم عن طريق: المذياع والتلفاز،وقد تركت أحاديثه هذه أثراً لا يمحى من ذاكرة متابعيه ،فعن طريق التلفاز ( الندوة الثقافية) اتضح الكثير من المعالم التاريخية التي تخص مدينة بغداد القديمة،ومحلاتها، وقبور الكثير من المشاهير، فضلاً عن مواقع بعض المدارس القديمة، والمساجد، إذْ كانت طبيعة برنامج (الندوة الثقافية) أن يخصص يوم من كلِّ أُسبوع لزيارة جهة من الجهات الأثرية تحت إرشاده، وهناك يبدأ بالشرح والتعليق، وتحديد المواقع، وبيان هويتها،ثم تعرض بعد ذلك على المشاهدين،فتعم فائدتها،ويبقى أثرها عالقاً في النفوس،وكذلك فعل في أحاديثه الإذاعية التي أهتمت بـ ( التّصويب اللّغوي)، في برنامج:”قل ولا تقل” وهو يخاطب المستمعين بصوت جهوري حاد النبرة،منساب مع كل مافي اللّفظة من رقة وفخامة،يقوم ما أعوج، ويصوب مازلَّ به اللسان لتظل العربية :” رائقة المشارب، نقية من الشوائب، سليمة من عبث المتهاونين،بريئة من غلط المترجمين، ناجية من المستهزئين”.
عُرف مصطفى جواد على صعيد الخاصة ، والعامة موسوعة معارف،تسعفه ذاكرته الحادة الممتدة في كلِّ ضرب من ضروب المعرفة، واشتهر بعنايته الفائقة بدقائق الأمور التاريخية،والمنسيات من الأحداث يصحح ما تعارف عليه النّاس من خطأ بمنهج علمي موضوعي، الدّقة والرصانة ميزته، والسّمو فوق العواطف والأهواء غايته،كما عاش مع المعجمات زمناً غير قليل،درس قديمها وحديثها، وعلَّق عليهما، وعرفهما معرفة حقة، وشخص مواطن الضَّعف فيهما،والتقصير في تناول الألفاظ المولدة، والمعربة، فكانت حصيلة هذه الدراسة ” المعجم المستدرك” الذي أودعه التعابير الفصيحة، والمولدة التي لم تذكرها كتب اللّغة،كما تتبع الحركة الأدبية واللّغوية في العالم العربي ،فلا يكاد يظهر كتاب أدبي أو لغوي إلا وله فيه رأي، أو عليه تعليق، كما اهتم بتحقيق النّصوص فغدا فيها المجلى الذي لا يدافع، والسابق الذي لا يلحق فكشف أوهاماً وتناقضات،وأغاليط وتصحيفات في اللغة،وأسماء الرجال، والمواضع، وتواريخ الوفيات، وغيرها، وقد ظهر ذلك كلّه في تعقيباته، واستدراكاته، وفي نقداته لكثير من الكتب والبحوث.
وفي معرفة خطط بغداد كان نسيجَ وحده، وبخاصة منها خطط بغداد في العصر العباسي، وتوسع في معرفة العصر العباسي المتأخر، وبخاصة عهد الخليفة الناصر لدين الله (553-622هجـ) فجلَّى الكثير من الغموض والشُّبهات،وفاض في كل جانب من جوانبه، وقدّم رسالته لنيل الدكتوراه (جامعة السوربون) في هذا الموضوع. كما نالت المرأة في التاريخ الإسلامي قدراً من اهتمامه، لأن التاريخ كما دوّنه مؤرخو العرب قديماً – كما يرى – تاريخ رجال ، لايظهر للمرأة أثر في واجهته،فألف في هذا الموضوع كتابيه:( سيدات البلاط العباسي – دار الكشاف، بيروت 1950)،( سيدات البلاط الأموي – مخطوط)،كما حقق نشر كتاب( نساء الخلفاء) لابن الساعي البغدادي، وأضاف إلى نصوصه ما يعدلها من الذيول والهوامش المستقاة من أمهات المصادر التاريخية، كما نشر بحثاً عن أشهر عالمة عراقية قديمة( فخر النِّساء شهدة – مجلة المعلم الجديد، مج6 (1940- 1941). وبقدر أصالته التاريخية، وعلو شأنه في هذا الميدان، فإن اللغة كانت هي الأخرى ميداناً فسيحا برز فيه، وتجلت علميته فيه ومقدرته إذ راجع ،وحقق الكثير من معجمات اللّغة ، وله في هذا أكثر من بحث منشور، في حين مازالت كتبه في هذا الميدان من آثاره المخطوطة، أما اللغة العربية فقد رأى أنها تعيش جملة مشكلات مختلفة، عسيرة الحل، صعبة العلاج، وهذه المشكلات،هي: مشكلة مصطلحاتها، وتعريفاتها، والثانية:مشكلة نحوها وصرفها،والثالثة:مشكلة معجماتها،والرابعة: مشكلة التّعبير بها،والخامسة: مشكلة رسمها( إملائها)، وهذه المشكلات لولا قرآنُ الله العزيز، والأدب اللفظي الضخم، لطوحت بها الطَّوائح، وصارت كاللغات التاريخية لاتدرس إلا عند الضرورة، ولا تظهر إلا في مواضع خاصة، ولا ينطق بها إلا بعد مرانة ، وتكلف ومعاناة.
أما سبب نشوء هذه المشكلات،فهو: النهضة الحديثة الحديثة في العالم العربي في السياسة، وفي العلم، وفي الأدب، ولم يكتف ببيان هذه المشكلات، وتشخيص أسبابها، إذْ تصدى بجرأة وثبات لدراستها، والعمل الجاد على تذليلها، وتقديم جملة مقترحات رآها ضرورية للنهوض بها، لإيمانه أن اللّغة كائن حي ّ متطور ينبغي أن لا يجمد على ماكان في العصور الأول، لأن طبيعة الحياة المتطورة، ومتطلبات التّطور الإنساني في الحضارة، والعلوم تقتضي أن تستوعب اللّغة كل جوانبها، كما حظي (النـَّـحو) بقسط وافر من بحوثه، ومحاضراته، ومقترحاته، لأنه كان ينظر إلى (النـَّـحو) على أنه أكبر مشكلات العربية، ومشكلته عويصة جداً، وهي مبعث الشّكوى، وسبب البلوى، فالجمود، وعدم التّطور، وانقطاع الإبداع، والغموض والإبهام من صفات (النـَّـحو) إلا ماشذَّ وندر، وسبب ذلك يعود إلى أن (النـَّـحو) متعدد المذاهب، مختلف الوجوه، كثير الاصطلاحات، متنوع الأبواب، ومع تقادم الزّمان على استقرائه، وبُعد العهد بوضع قوانينه، ندر تناوله بالاصلاح والتهذيب،واشتمل عليه حبّ القديم، وتقديس العتيق، فرهنت مشكلته، ودام جموده، وخمدت حياته، وركدت روحه، ولولا وجود الخلاف فيه بين البصريين والكوفيين، ونبوغ فلان وفلان وأخذهما بهذا وذاك من مذاهب (النـَّـحو)، وتأليف عدة كتب في هذا الباب لأصبح (النـَّـحو) معضل الدّاء، لا يرجى صلاحه، ولا يسع لمفكر أن يبدي فيه، ولا أن يعيد.
وإكراماً لذكراه بادرت وزارة الثقافة والإعلام إلى إقامة حفل تأبيني برعاية رئيس الجمهورية في قاعة الخلد (الخميس26/ 3/1970) وفي هـــذا الحفـــل تبارى الشعـــراء في رثائه، وبيان فضائله، والإشـــادة بجهوده، فقد كان في اللغة والتاريخ كما قال د. عبد الرزاق محيي الدين: ” رجلاً بمجمع، ومجمعاً في رجل يستقريء، ويلم ولو كان رأيه وزان مايروى لأوفى على غاية الغايات”. ومن القصائد التي ألقيت في هذا الحفل التابيني قصيدة الدكتور مصطفى جمال الدين نقتطف منها، قوله:
ضاحٍ على وهج الحروف توقدا * هيهات يطفيء لمح عينيه الردى
ومحطـم سُدَفَ الخلود بروحــه * هل كيف يلقاه رتاجـــاً مو صـــدا
ياراكب السبعين لم يشــك الونى* شـــوطٌ يغــذُّ به على سعة المدى
تتلمس الحسك اليبيس من النهى* فتحيله تَـرفَ الخيــــــــال مورِّدا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤلفات الاستاذ الدكتور محمد البكاء عن العلامة مصطفى جواد

Filed under: فكر،قضايا واراء،مقالات،مدارات،اللسانيات،ثقافة،علوم | Tagged: الاستاذ الدكتور محمد عبد المطلب البكاء،العلامة مصطفى جواد |